العدد 77 - الخميس 21 نوفمبر 2002م الموافق 16 رمضان 1423هـ

حضور العلامة محمد باقر الصدر في المغرب العربي

لندن - نور الدين العويديدي 

21 نوفمبر 2002

في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، بدأت تيارات فكرية وسياسية جديدة آخذة في التخلق، ثم النمو السريع، في أعماق المجتمعات في دول المغرب العربي. وكان أمام هذه التيارات الناشئة معارك طاحنة على الأصعدة الفكرية والسياسية، لابد لها من خوضها حتى تثبت وجودها في ساحات مليئة بالحركة والمماحكات والجدل الفكري والسياسي، ومن أهل تلك الساحات ساحات النقابات والمعاهد والجامعات والمنتديات العلمية والثقافية، التي كانت قد تشكلت فيها على امتداد زمن طويل تيارات فكرية وبدت راسخة البنيان، عميقة الجذور، لها مقولاتها وأدواتها التحليلية للتاريخ وللمجتمع بمختلف مكوناته وفضاءاته، وللصراعات الدائرة فيه، كما للصراعات الإقليمية والدولية. وكان على هذه التيارات الناشئة حديثا، أعني التيارات الإسلامية التي ظهرت متأخرة في المغرب العربي بالقيام لنظيراتها في المشرق، أن تنحت لنفسها مقولات وأدوات تحليلية جديدة تزاحم بها في سوق الجدل الفكري والسياسي الصاخب الحركة.

وبحكم تأخر نشأة التيار الإسلامي المغاربي، واستغراق مراحله الأولى في مفردات التكوين التربوي والعقائدي البسيط، وصبّ جام الاهتمام الفردي والجماعي في المراحل الأولى من عمر تلك الظاهرة على القضايا التربوية والأخلاقية الفردية، من دون الدخول - إلا لمما - في معترك القضايا الاجتماعية الكبرى ذات الصلة بالحقل السياسي... بحكم تلك الملابسات لم تكن مكونات هذا التيار تدرك في البداية، الإدراك الكافي، أهمية الصراع الفكري والسياسي، ولا كانت تجد نفسها مدفوعة لخوض غماره بالقوة المطلوبة... غير أن مسارها التطوري السريع الذي تأثر بعوامل عديدة بعضها داخلي مثل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الناشبة في مجتمعاتها، وبعضه الآخر خارجي مثل هزيمة حزيران/يونيو 1967، ثم بداية قطار التطبيع الذي دشنته مصر في نهاية السبعينات، ومثل في تلك الفترة صدمة هائلة للوعي وللضمير العربي والإسلامي، ثم قيام الثورة الإسلامية في إيران التي وضعت الإسلام من جديد في قلب المعترك السياسي والدولي، بعد أن ظن أن شمسه قد أفلت، وغدا مجرد ذكرى أو مجرد مكون من مكونات الماضي والذاكرة الإنسانية التليدة... كل هذه التطورات الكبرى المتتابعة وضعت الحركة الاسلامية بطريقة شبه فجيئة في خضم المعترك العام الذي لم تكن توليه، قبل ذلك، اهتماما كبيرا يليق بحجمه وتأثيره، وكان عليها أن تجيب على التحدي الذي أخذ يواجهها. فقد وجد الطلاب الإسلاميون، وهم طليعة التيار الإسلامي، في مختلف الجامعات في الدول المغاربية وخصوصا في الجامعات التونسية بضاعتهم الفكرية هزيلة أمام بضاعة نظرائهم اليساريين والقوميين والليبراليين الذي ينهلون من «تراث» فكري ثري، راسخ الجذور في الثقافة الغربية الحديثة، تشكل على فترات زمنية طويلة بعضها يمتد إلى قرون، وكان على أولئك الطلاب أن يردوا على التحدي.

وهنا كانت الحاجة تدفع إلى البحث في ما كتب في الفكر الإسلامي الحديث عسى أن يكون مرشدا ودليلا في خضم تلك المعارك الفكرية المحتدمة، فتمّت العودة إلى كتب المفكر الجزائري المرحوم مالك بن نبي، وكتب الشهيد سيد قطب، وما كتب العلامة محمد إقبال وكتب أبو الأعلى المودودي. وكان لكتب العلامة الشهيد محمد باقر الصدر عليه رحمة الله حضور خاص، إذ أوليت عناية لا نظير لها، فقد كانت فيضا عظيما ومددا لا ينضب، أو كانت ذلك الماء العذب الذي صادف أرواحا عطشى في صحراء قاحلة. فانتشرت بين أيدي الشباب الإسلامي كتب «اقتصادنا» و«فلسفتنا» و«البنك اللاربوي» و«الأسس المنطقة للاستقراء» وغيرها. وكان لسلسلة المحاضرات التي حواها كتاب «التفسير الموضوقي للقرآن الكريم» أهمية بالغة لا تقدر بثمن. ففي حين كان «اقتصادنا» و«فلسفتنا» يقدمان نقدا صارما للنظريات الفكرية والفلسفية الغربية البارزة، وهو ما كان يزود أولئك الشبان برصيد فكري كبير، ويهديهم إلي كيفية الرد على نظرائهم من الشيوعيين والقوميين والليبراليين، ويزودهم بزاد فكري عميق يقارعون بواسطته تلك النظريات، كان كتاب «التفسير الموضوعي للقرآن» يقدم ما يشبه الأسس المنهجية لتكوين نظرية إسلامية في شتى مناحي الحياة، عبر إرجاعها إلى نصوص القرآن الكريم، لاستخلاص القول الفصل فيها... وكان الأفكار الجليلة التي بسطها العلامة الصدر في ذلك الكتيب الصغير الحجم، الجليل القيمة، حول الحوار بين العقل والنص والواقع، تقدم معينا لا ينضب للإجابة على تحديات الخصوم. كما كان رصيد المصطلحات التي نحتها الشهيد الصدر رحمه الله يلعب دورا شديد الحيوية في تزويد أولئك الرهط من الناس بأدوات تحليلية لفهم الواقع والتعامل معه، كما يعطيهم ثقة في أنفسهم في مواجهة خصومهم.

وبحكم اسبقية التجربة الاسلامية التونسية نسبيا على نظيرتها المغاربية الاخرى وتأثيرها فيها تأثيرا واضحا، وخصوصا في المغرب الاقصى، فقد انتقلت عدوى الاهتمام بكتابات الشهيد الصدر إلى التجارب الاخرى وخصوصا التجربة المغربية.

وقد تضافرت أسباب كثيرة شدت الاهتمام إلى الشهيد الصدر في المغرب العربي، وجعلته من بين مفكرين اسلاميين بارزين تربى على كتاباتهم جيل من أبناء الصحوة الاسلامية، مثل الشهيد سيد قطب والامام البنا والسيد المودودي، ومن هذه الاسباب اسباب تخص الشهيد الصدر وفكرة وتميزهما عمن سواهما ، ومنها اسباب تتعلق بالبيئة المغاربية وبقابليتها لفكر مثل فكر السيد الصدر، ولعل ابرز تلك الاسباب ما يأتي:

- روح الشهيد التغييرية الجذرية «الانقلابية» وفهمه الشمولي للمشكلة التي تعاني منها الامة الاسلامية، ولنسمعه يقول «الامر أيها الاخوة ليس أمر شبيبة تفسدها المدارس، ولا أمر جماعة تحتاج إلى وعظ وتوجيه، ولا بيئة يجب أن تهذب وتنظف من الدعارة والفساد، بل امر امة يجب ان تقام على اساس الاسلام لتسعد في الدنيا والآخرة». فأفكار السيد الصدر لم تكن ذات منحى إصلاحي في بيئة تحتاج عندما يطرأ عليها خلل إلى بعض إصلاح وبعض تهذيب، وإنما هي افكار تواجه خللا جوهريا وشاملا، وجدت الامة نفسها تتخبط في غماره بعد قرنين من الاستعمار والهيمنة الخارجية... وهو توصيف دقيق وموضوعي للواقع، ينظر إلى الامور بعين بصيرة تطل على المشهد من عل فتراه على حقيقته، لذلك على خلاف ما كانت تورده كتابات اسلامية اخرى تجزيئية ترى المشكل محصورا في هذه القضية الجزئية أو تلك.

- لم يكن الامام الصدر مجرد مفكر غارق في شجون فكره وهموم نظرياته، وانما كان عالما عاملا، أو ما يمكن أن نصطلح عليه بلغة العصر بالمثقف العضوي... وهذا هو النموذج المطلوب بالنسبة إلى شباب الصحوة الاسلامية الذين يبحثون عن الفكرة السديدة ويطمحون إلى رؤية القدرة الرشيدة... وان يدفع الشهيد الصدر حياته من اجل افكاره ومبادئه، فقد كان ذلك قمة التماهي مع تلك الافكار والمثل والمبادئ السامية، وكان ذلك مدعاة لقوة تأثيره وسحر قوله في النفوس، وليس غريبا أن يكون الشهيدان سيد قطب ومحمد باقر الصدر رحمهما الله من بين أبرز المؤثرين في حياة جيل عريض من ابناء الصحوة الاسلامية المعاصرة.

- لغة الشهيد الصدر العصرية، ووعيه بقضايا العصر وإشكالاته، وامتلاكه لادوات العصر المنهجية والمعرفية، وامتلاكه في الوقت نفسه لمعرفة دقيقة بمكوناته الحضارة الغربية وتجلياتها في العلوم والافكار والفلسفات، وطرحه للقضايا والمسائل ذات التأثير البالغ على الحياة المعاصرة طرحا منهجيا راقيا... كل ذلك ميزه باهتمام الناس والشباب منهم خاصة، فتراهم عاكفين على فكره واطروحاته الحية التي كانت تتنزل في قلب الواقع وحركته اليومية، وتقدم اجوبة اسلامية على كثير من الاشكالات العويصة التي يثيرها الواقع.

- خوض الشهيد الصدر لمقارعة طويلة ذات طابع فكري فلسفي شامل ضد البنية الفكرية للغرب وضد ادعاءات الصحة المطلقة لنظرياته ومناهجه، كسرت حدة الانبهار بفكر الغرب ونظرياته، ووضعها في حجمها الحقيقي وإطارها النسبي، واعادة الثقة للنخب المسلمة بالمخزون الحضاري والمعرفي للامة الاسلامية. وهو الامر الذي أخرج النشاط الاسلامي من خندق الدفاع او الانطواء وراء اسوار الذات المهددة، إلى ساحة المواجهة والتحدي والهجوم. وهو الامر الذي اكسب الفكر الاسلامي والحركة الاسلامية ثقة كبيرة في النفس، وجعل المدارس الفكرية، التي كانت في وضع هجوم، ترتد إلى مواقع دفاعية، وبذلك زرع الشهيد الصدر القناعة بأن الاسلام والفكر الاسلامي أقوى وأمتن من النظريات والطروحات الاخرى.

- وأما الاسباب التي تتعلق بالبيئة المغاربية التي ساعدت على ذلك الحضور البارز والتأثير العظيم للشهيد الصدر في المغرب العربي، فهو خلو البقعة من الارض، بسبب تجانس اهلها دينيا ومذهبيا، من المماحكات الطائفية والعقد المذهبية، ومن المنغصات التي قد تحول بين الناس والاطلاع على منتجات الفكر الاسلامي من اي مدارسه الفكرية والمذهبية جاء.. فلم يكن هم الحركة الاسلامية في المغرب العربي ان تواجه مذهبا إسلاميا فتسفهه او تنتصر لمذهب آخر، وإنما كان همها الاكبر في ظل سيطرة الثقافة الفرنسية التي سادت دول المغرب الاسلامي شطرا من الزمن، وهي ثقافة إلحادية لادينية متطرفة في تيارها العريض... كان همّ الحركة الاسلامية في ظل ذلك الوضع ان تثبت صحة الاسلام وشموليته وصلاحيته للحياة المعاصرة، وكانت بالتالي تعترف من جميع المذاهب الاسلامية من دون استثناء، وتستخلص منها، على اختلافها، ما تدافع به عن الاسلام دينا وعن العروبة هوية وثقافة. لذلك لم يكن غريبا أن تكون صور غلاف أحد أعداد مجلة «المعرفة» التي كانت تصدرها «الجماعة الاسلامية» في تونس (حركة النهضة الآن) في نهاية السبعينيات، هي صور الامام حسن البنا والامام الخميني والامام ابو الاعلى المودودي، باعتبار ان كل اولئك الزعماء الكبار هم آباء هذه الحركة الوليدة التي تنظر للاسلام نظرة شمولية تجمع ولا تفرق، ولا نظرة تجزيئية تغرق في خصوصيات «الذات المذهبية»، وتنطوي عليها، وتكتفي بها، في محيط هادر بثقافة العلمنة وروحها المتحدية.

ولم يكن غريبا في هذا المناخ ان تكون كتب العلامة الصدر هي أوسع الكتب انتشارا بين ايدي الاسلاميين في تونس، اذ كان من النادر أن يخلو منزل من منازل الشباب الاسلامي من كتاب «اقتصادنا» أو «فلسفتنا» أوالتفسير الموضوعي للقرآن الكريم»، باعتبار تلك الكتب هي الكتب الاكثر قدرة من سواها على الاجابة على التحديات التي يطرحها الواقع بحدة، وباعتبارها الاكثر وضوحا ونسقية في عرض الاسلام وتقديمه وفي المنافحة عليه في الربع الاخير من هذا القرن. في مقابل ذلك كانت الكتب والمنشورات هي من بين أبرز ما ما كانت تصادره أجهزة الشرطة التونسية من بيوت الاسلاميين، باعتبار ذلك من الأدلة القاطعة على ولاء الطرف الاسلامي التونسي لجهات «شيعية» أجنبية.

ولست انسى الآن، حين أعود بالذاكرة عشرين سنة إلى الوراء، نفسي وانا في مقتبل العمر، أكلف نفسي عناء العمل لدى احد جيراننا، مع ثلة من الرجال أكبر مني سنا واقوى مني عضلات وسواعد، لمدة ثلاثة ايام متتالية لكي اجمع مبلغا يساوي سبعة دولارات ونصف، لاشتري بها كتاب «اقتصادنا» الذي كنت اباشر قراءاته في تلك السن المبكرة من دون أن أفهم اكثر ما يرد فيه. واذ أورد هذه الحادثة التي قد تبدو للبعض غير ذات موضوع في سياق الحديث. فإنني اجد اليوم كم كان ذلك الحدث الشخصي معبرا ابلغ التعبير وموحيا اشد الايحاء في التعرف على ملامح واقع عام، طبع باهتمام بارز لدى جيل عريض من شباب الصحوة الاسلامية بكتابات الشهيد الصدر، بسبب ما وجده فيها من معين خصب يفتح آفاق الفكر، ويزود الشخصية الاسلامية بثقة كافية في نفسها وتراثها، في ظل خضم عظيم من الافكار والتيارات الجارفة الدافعة نحو الانحلال من ربقة الدين وكل ماله صلة أو نسب

العدد 77 - الخميس 21 نوفمبر 2002م الموافق 16 رمضان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً