العدد 84 - الخميس 28 نوفمبر 2002م الموافق 23 رمضان 1423هـ

الصيد في المحيط: طريقة الحياة الفانية

يتحدث كتاب جين جومي الجديد الرائع (رجال في البحر) عن حياة صيادي الأسماك وأحوال الطقس. فقد ركب جومي وهو مصور صحافي البحر أربع مرات في الفترة من 1984 الى 1998 على سفينة مكشوفة، والتقط صورا في رحلاته هذه واحتفظ بسجل لأدائه في كل رحلة. وعلى رغم أن جومي غير معتاد على البحر، ويصيبه دوار البحر فضلا عما يشعر به من خوف وآلام جسدية، إلا أنه ركب المراكب وأقلع نحو حياة صيادي الأسماك على متن السفينة ليطل على الحياة الطبيعية الساحرة. وما كتبه من مذكرات تم إعادة كتابتها فيما بعد، كما سجّل ما لاقاه في البحر من أوقات عصيبة في الليل والنهار، إلى جانب الظروف المشجعة على متن السفينة وخارجها، يقول جومي: «ضربتنا قصفة رعد ضربة مدوية، فسقطت إلى الأسفل مسافة طويلة، وحاولت حماية كاميراتي ولكنني اصطدمت بكتلة خشبية على حاجز السفينة بكل قوة في ضلعي» ويستطرد قائلا:

«كُلْ، يجب أن تضغط على نفسك وتأكل، المنضدة صغيرة جدا، مكتظة بالصحون المتسخة بالزيت، العظام موجودة في كل مكان، علب الشراب، القهوة، وأعقاب السجائر المشبعة بالماء وهي تطفو على أكواب من الصفيح.

كل شيء يتحرك يجب أن تضغط على نفسك وتبتلع الأكل الدهني».

شكّلت صور جومي العادية - أبيض وأسود - هذا الكتاب الضخم، يقول المؤلف: «لم أر إلا في البحر، صورا كالحة، قليلة الجمال، وأخرى جميلة جدا. لا يتحمس أحد للحياة وسط البحر، فهو مكان مخيف وخطر يبعث اليأس في النفوس».

وما يدهش في حياة الصيادين عدم اكتراثهم بالروتين. تكسو الرجال البشرة الزيتية، محتشدين في شكل منحنٍ على حافة ظهر السفينة، يقومون بفرز الأسماك التي رفعوها من البحر إلى متن السفينة بالشباك، ولا يظلهم غير سقف واهن تغطيهم السحب السوداء. عندما يجتازون هيجان البحر يتبادلون الحديث ويمزحون، وزبد البحر يهب ويطير من أعلى الأمواج بفعل الرياح العاصفة. من يقوم بمثل هذا العمل؟ من يذهب إلى البحر على مثل هذه المراكب لمدة 40 يوما في كل مرة ويعمل 18 ساعة في اليوم، ولا يكسب أحيانا إلا قوت يومه؟ يصطاد صيادو السمك لأنهم نشأوا صيادين منذ أجيال، كل حياتهم في البحر، وعلى الشاطئ. «نادرا ما يرجع أحدهم إلى اليابسة. يقرر المركب وحده الحياة، في البحر، في العمل. أما في البر فأنت الذي تقرر الأحوال بنفسك وحدك».

كل ذلك يعرفه هؤلاء الصيادون، ولكنهم يعرفون البحر أكثر، فهو يمنحهم مكانا في العالم: «يمكن أن يتحدث ربان السفينة عن قاع البحر كأنما يصف منظرا طبيعيا رائعا - فالبحر بالنسبة له واضح وجلي كأنه منطقة في الريف. خياله قد امتلأ بصور قاع البحر، وكيف طارت سفينته بفعل الأمواج وعالم البحار المجهول يتكون من الصخور والطمي، والحشائش المغذية، وتستوطن الحيوانات القرمزية في الجروف والسهول والأعشاب، إذ تعيش وتقتات على أعماق مختلفة.

توجد غرفة الربان الرطبة في الأسفل، وهي نتنة بسبب رائحة العرق وخانقة بدخان السجائر، يأكلون جميعا غذاء تافها ويعلقون صور الفتيات على الجدران، ويتحدثون عن الحياة والغرق والنقود والنساء. ويوجد بينهم ذلك الارتباط الذي ينشأ بين العاملين في أكثر الأماكن المروعة - في قاع المناجم أو على أرصفة الموت - ودوّن الكاتب كل ذلك بشكل عجيب، بالكاميرا، رغم أسفه كما جاء في مذكراته لفقده جميع اللقطات المفيدة.

لقد اختفت فعليا تلك المراكب منذ أن بدأ جومي إبحاره على متن السفن المكشوفة الظهر. كان يدرك هذه الحقيقة أثناء قيامه بالتصوير والكتابة عمّا رآه من تاريخ ذابل. كان يعلم أيضا عن اختفاء السفن وصيادي الأسماك على ظهرها منذ سنوات قليلة ماضية - المراكب الشراعية (السكونات) البرتغالية التي كانت تجوب الشواطئ الواسعة بحثا عن سمك القد، حيث يضع الرجال فيها خيوطا وصنارات من زوارق مفتوحة ويجدّفون لساعات في الصقيع والبرد. تبدو تلك الحياة رائعة وفاتنة، وربما تكون كذلك بالنسبة لسائح مصور للحياة البرية، أما إذا ما شاهدت صور جومي في حال القيام بها، لا تتخيل أنها ستكون في حال أفضل مما كانت عليه. الشيء الوحيد الذي يحفظ صور جومي هي حقيقة أنها ستأخذ طريق رجال الزوارق البرتغاليين نفسه. لقد أبادت المنافسة بواسطة سفن صيد الأسماك من أميركا الجنوبية تلك السفن المكشوفة، إذ تقوم الأولى بتفريغ شحنات الصيد بنصف سعرها، ومن ثم تنقل جوا إلى الأسواق التقليدية للصيادين. إن كتاب «رجال في البحر» كتاب جميل ونادر، ووثيقة أرشيفية لعالم واسع يغيب عن الذاكرة، أو قد غاب بالفعل من قبل

العدد 84 - الخميس 28 نوفمبر 2002م الموافق 23 رمضان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً