العدد 84 - الخميس 28 نوفمبر 2002م الموافق 23 رمضان 1423هـ

القراءة المعاصرة للقرآن ضرورة ثقافية اجتماعية

إن مُسلّمة صلاحية القرآن واستمراره لكل زمان ومكان تقتضي بطبيعة الحال بشكل منطقي أن تكون بنية القرآن بنية مختلفة تماما عن أية بُنى من النصوص الأخرى، ومن هذا الوجه لم يُعدّ النص القرآني نصا تاريخيا كأي نص آخر. ونفي صفة التاريخية عن النص القرآني أدى عند المسلمين خلال قرون مضت إلى أن يجمدوا دراسة هذا النص.

وسحبوا التفاعل الأول الذي لازم النص نزولا إلى المجتمعات اللاحقة إذ أصبح كل مجتمع بمثابة قناة نقلية يتم من خلالها مرور التفاعل الأول، وهكذا أصبحت ثقافة المسلمين ثقافة نقلية، والعلم هو حدثني فلان عن فلان، وكثرت المقولات التي تشيد بها التثقيف الوراثي نحو: «عليكم بالأمر العتيق» و«خذوا العلم ممن مات لأن الحي لا يؤمن عليه الفتنة»... إلخ. وبهذا العمل أصبحت المجتمعات نسخا طبق الأصل عن المجتمع الأول الذي عاصر نزول النص الإلهي.

فكان هذا الأمر أحد أهم أسباب تخلف المسلمين وتغيبهم عن ساحة عالم الشهادة، ودخولهم في متاهة التاريخ وتبني المواقف الأيديولوجية في ذلك الوقت وبدء الصراع من جديد من خلال سحب هذا الصراع الأيديولوجي وما نتج عنه من فقه وعقائد إلى الزمن المعاصر إذ أصبح المجتمع الحالي يعيش في الماضي فكرا وثقافة، أما حضوره في الزمن المعاصر فهو حضور شبحي «كأنهم خشب مسندة»!

لذا يجب أن نفرّق بين النص الإلهي وبين فهم المجتمع وتفاعله مع النص الإلهي - لأن تفاعل المجتمع مع النص وصياغة تفسير ومفهوم له يخضع لعامل التاريخ. ذلك أن المجتمع يتعامل مع النص الإلهي حسب أدواته المعرفية فيكون فهم النص من قبل أي مجتمع إنما هو هم له لا يتجاوزه إلى غيره إلا من كونه تراثا ثقافيا يؤخذ به بعد عملية فرزه حسب الأدوات المعرفية الجديدة، ويبقى النص الإلهي مستمرا في الوجود والعطاء الزمكاني لكل مجتمع يتفاعل معه بشكل مباشر حسب أدواته المعرفية.

ومع هذا الوجه تظهر لنا الحاجة الملحة للقراءة المعاصرة للنص الخالد حتى نحمي مجتمعنا من الاختراق الثقافي والعولمة ومن الذوبان في الثقافة الوافدة إلينا عبر وسائل التقنية التي فرضت نفسها علينا من خلال قانون التطور والتواصل العالمي الاقتصادي والإعلامي وتابعية الضعيف للقوي. هذه القراءة المعاصرة للقرآن ضرورة ثقافية لتماسك المجتمع وإعادة بنائه من جديد على أسس ثقافية تسع الجميع لينهض المجتمع من سُباته الذي غرق فيه مئات السنين ليبني أساس البيت الكبير الذي هو حق للتابعين له من دون تفريق بين واحد وآخر.

ويلزم الانتباه والحذر أن النهضة في المجتمع الحالي تقتضي بالضرورة قراءة التراث كله والقيام بدراسات موسوعية لمختلف العقائد والملل والنِحَل وتحليل أحداث كل مجتمع بعينه وتخضيعها إلى دراسة علمية حسب أدواتنا المعرفية. إن ذلك فخ ثقافي يجعل مفكري الأمة يغوصون في تراثهم كل حسب وجهة نظره وأدواته المعرفية فيزيدون الأمر هولا ويسحبون إشكاليات التراث إلى الزمن المعاصر لتصبح مشكلاتهم وديدنهم وينقسمون فرقا متناحرة وينعكس ذلك على المجتمع وبالتالي يعود إلى سُباته غارقا في أحلامه التراثية ويغيب عن ساحة عالم الشهادة.

والنص القرآني نص ارتبط بالواقع من كونه محلا لخطابه، وبالتالي أخذ صفة الواقع نفسه من حيث الثبات والتغيير، فما هو ثابت في الواقع يكون كذلك في النص، وما يكون متغيرا في الواقع يكون كذلك في النص على صعيد الآفاق والأنفس. إن العلاقة بينهما علاقة اللازم بالملزوم لا ينفكان عن بعضهما بعضا أبدا. «أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا» النساء 82. فوحدة المصدر - الواقع/النص - تقتضي تطابق القول مع الفعل ضرورة. ومن هذا الوجه ظهرت مقولة: ثبات النص وحركة المحتوى. لأن الإنسان ليس مَلِكا في الأرض، وليس عبدا مملوكا. وإنما هو في مقام الخلافة، «إني جاعل في الأرض خليفة» البقرة 30، الذي يقتضي الالتزام بالحدود التي أمر بها المستَخْلِف «تلك حدود الله فلا تعتدوها» البقرة 229. هذه الحدود تمثل الجانب الثابت من التشريع، وقد أعطى المُستَخْلِف للخليفة حرية التحرك ضمن هذه الحدود، ليحقق مصلحته ويواكب التطور والمستجدات ليحصل عنده التوازن النفسي والاستقرار الاجتماعي، ويعيش في سعادة نسبية على جنة الأرض من خلال عمارتها وتسخير ما فيها لنشر العدل والمحبة والسلام والأمان بين المجتمعات البشرية، وهذا هو الجانب المتغير من النص الإلهي.

منهج

القراءة المعاصرة للقرآن

قد يظن بعض الباحثين أن القراءة المعاصرة للقرآن متسيبة لا ضوابط لها، وبالتالي فممكن أن تظهر قراءة وجودية للقرآن تنفي مصدريته الإلهية بل تنفي الإله نفسه وتُعَدُّ هذه القراءة رأيا لصاحبها يجب أن يصان حسب الذين يدعون للقراءة المعاصرة. من هذا المنطلق رفضوا القراءة المعاصرة من أساسها، ومنهم من قبلها بشرط أن تعيد تأسيس التراث وتعطيه الحياة مرة ثانية، ولست في صدد نقاش الرأيين وإنما سأكتفي بالإشارة إلى أهم الأسس التي يجب أن تقوم عليها القراءة المعاصرة للقرآن، ومن خلالها وما سبق ذكره يظهر تهافت الرأيين السابقين.

أولا: أساس ومنطلق للقراءة المعاصرة للقرآن هو الإيمان بمصدريته الإلهية لأن انتفاء هذه المصدرية ينفي عنه القراءة المعاصرة ويصبح نصا تاريخيا وتراثا لمن سبق من المجتمعات.

ثانيا: النص القرآني نزل باللغة العربية وهذا يقتضي أن نتعامل معه حسب بنية اللغة العربية من كونها:

1- نسبية الفهم.

2- تاريخية الدلالات من حيث استخدام الكلام (حياة وموت دلالات الكلمات).

3- قابلية التطور والتوسع لاستيعاب المستجد من الحياة.

4- جدلية الفكرة واللغة من حيث صياغة المعنى.

5- اللغة أداة مطواعة ووعاء يتم من خلالها إسقاط الأفكار إلى الواقع فالقيادة للفكر واللغة تابعة منقادة له.

6- ليس هناك ترادف في اللغة (إذا اختلف اللفظ اختلف المعنى ضرورة).

7- أي تغيير في بنية الجملة من زيادة أو نقصان أو تقديم أو تأخير يؤثر بالمعنى المفهوم.

8- المجاز والرمز أسلوب قائم في اللغة.

إلى غير ذلك من الأمور المتعلقة باللغة العربية.

ثالثا: إن كتاب الله عز وجل لم تنزل مواضيعه بشكل مرتب ومتسلسل، وإنما توزعت وتداخلت ببعضها بعضا لحكمة أرادها الله عز وجل، مما اقتضى ضرورة أن أية دراسة للقرآن لا يمكن أن تتم على شكله الحالي كما هو معهود بطريقة المفسرين التقليدين بل لا بد من عملية ترتيل الآيات ذات الموضوع الواحد وإخراجها من القرآن لتشكل مع بعضها منظومة واحدة وترتب حسب منظور علمي ومن ثم تتم دراستها.

رابعا: استحضار الكليات في القرآن على صعيد الآفاق والأنفس ليتم فهم الأمر الجزئي ضمن منظومته من خلال الكليات والمقاصد.

خامسا: كون النص القرآني إلهي المصدر يعني ضرورة نفي صفة الحشو واللغو والخطأ والتناقض والكذب وأية نقيصة عنه لأن ذلك يؤثر على فهمه ودراسته.

سادسا: استبعاد الفهم السطحي السريع للنص القرآني الذي يأتي من عامة الناس وما تعارفوا عليه من دلالات لاستخدام الكلام. وإنما يجب الغوص في أعماق النص لاكتشاف أغواره ومقاصده للوصول إلى الجديد والبديع في فهم النص.

سابعا: الآفاق والأنفس هما السكة التي يمشي عليها العقل لمعرفة ودراسة عمق النص القرآني من خلال إسقاط الدال (النص) على المدلول عليه (محل الخطاب من الواقع).

ثامنا: إن فهم النص القرآني يتطور مع تطور الأدوات المعرفية وبالتالي يؤدي إلى اتساع فضاء وأبعاد النص ضمن الجانب الثابت فيه كافاق وأنفس.

تاسعا: يجب الانتباه إلى مفهوم الرمزية في الاستخدام القرآني للكلمات لأن إغفال ذلك يجعل مفهوم النص باهتا هزيلا مُغيّبا عن الواقع.

وهذا مثال لتوضيح كيف يتم استخدام المفهوم الرمزي من خلال ترتيل الآيات ذات الموضوع الواحد والآيات التي استخدمت الكلمة نفسها بعدة دلالات بجانب معرفة الوظيفة التي ممكن أن تنتقل بالتشبيه من الشيء المذكور صراحة في النص إلى المغيب ما وراء الألفاظ من مقاصد.

قال تعالى: «والشجرة الملعونة في القرآن» الإسراء 60.

النظرة السطحية للنص واستدعاء دلالة كلمة «شجرة» من عوام الناس والتأثر بالتراث نقول: إن هناك شجرة من النبات قد لعنها الله عز وجل! ولكن إذا تعمقنا قليلا في النص نلاحظ أن النص يذكر شجرة ملعونة في القرآن مما يعني وجود اسم وصفة هذه الشجرة في القرآن نفسه!! وإذا بحثنا في القرآن ولم نجد شجرة نباتية قد نص الخالق على لعنها نعلم عندئذ أن ليس المقصود بكلمة شجرة هو المعنى المستخدم بين عامة الناس وإنما المقصد معنى آخر لكلمة شجرة تدل عليه بدلالتها اللغوية.

إذا لا بد من استخدام الفهم العميق واستحضار النصوص الكلية من القرآن المتعلقة بالموضوع نفسه فنلاحظ أن فعل اللعن لا يمكن في الواقع أن يكون إلا لعاقل، وكون الأمر كذلك مما يؤكد ضرورة أن كلمة شجرة ليس المقصود بها في النص النبات وإنما المقصد هو دلالتها اللغوية التي تدل على تداخل الشيء ببعضه بعضا أو مع غيره، ومن ذلك نقول: الشجار الذي هو تخاصم الناس فيما بينهم، وسميت الشجرة كذلك لأن أغصانها تتداخل مع بعضها بعضا أطلقت كلمة شجرة على تداخلات وعلاقات العائلة أصولا وفروعا (شجرة العائلة)

العدد 84 - الخميس 28 نوفمبر 2002م الموافق 23 رمضان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً