خرج التيار السلفي الجهادي إلى الوجود من رحم جماعة الإخوان المسلمين، في ظروف خاصة مرت بها هذه الجماعة في الخمسينات والستينات، بسبب المواجهة والاستهداف بالاستئصال العنيف، الذي تعرضت له من قبل حكم الرئيس المصري الأسبق الراحل جمال عبدالناصر. ولكن في الحقيقة فإن هذا التيار هو ابن شرعي للأوضاع العربية المتردية وللفشل العربي السياسي والعسكري والاجتماعي والاقتصادي والثقافي الذي نبت في ظله، أكثر مما هو ابن شرعي للجماعة التي خرج من رحمها وعاش في أحشائها فترة من الزمن. أعني أن ولادة هذا التيار لم تكن نتيجة لفكر الجماعة وللثقافة التي تربي عليها عناصرها وأتباعها، وإنما كانت ثمرة لحملة القمع العاتية التي تعرض لها الاسلاميون في السجون المصرية، الأمر الذي خلف في نفوس الكثيرين منهم ممن تعرضوا لذلك التعذيب القاسي المهين للروح والكرامة الانسانية، ردة فعل مشوهة جعلتهم ينتهون إلى الخلاصات الآتية:
أولا: أن نظاما يصنع بمواطنيه مثل هذا الصنيع هو نظام لم يبق له من الاسلام إلا الاسم، وأنه على الحقيقة نظام «كافر»، يصنع بالمؤمنين ما كان يصنع بهم أبو جهل وأمية بن خلف وأبو لهب وغيرهم من عتاة الجاهلية ورموزها، الذين واجهوا الدعوة الاسلامية في بدايتها، وعذبوا الصحابة المستضعفين، وقتلوا منهم من قتلوا تحت التعذيب.
ثانيا: أن خيار العمل السلمي المدني والتغيير الهادئ والبطيء خيار خاطئ وفاشل، قاد إلى تلك المحنة وما احتوت عليه من سجون وقتل وتعذيب وتنكيل يكاد يستأصل الدعوة من شأفتها.
ثالثا: أن الأنظمة «الكافرة» التي تواجه الدعوات والعقائد بـ «الكرابيج» والأسلحة والقتل والاغتيالات، لابد من مواجهتها بنفس الاسلوب وبنفس السلاح الذي تواجه به الدعوة... فـ «لا يفل الحديد إلا الحديد» و«لابد للحق من قوة تحميه وتردع عنه من أراد استئصاله، وترد غائلة الأعداء دونه».
وعلى ضوء تلك الخلاصات التي تخمّرت في مناخات السجون والمحن، وفي إطار تلك التجارب المريرية، بدأت في التخلق والتشكل التدريجي روح جديدة، رضعت من لبن الهزائم والانكسارات العربية، ومن انتشار ثقافة الانحلال والميوعة، وانخرام موازين الأخلاق والقيم، والفجوات الطبقية والاجتماعية، والانسداد السياسي، والتضييق الأمني... تلك الروح المعبأة والمحفزة برغبة الانتقام الشخصي من الذي اعتقلوا ومارسوا القتل والتعذيب والإهانات، بلورت تيارا أخذ في التنامي مستفيدا من مناخات هزيمة 1967 التي أدت إلى ردة فعل قاسية في الشارع العربي تجاه الأنظمة العربية الحاكمة وتجاه الايديولوجيات القومية والاشتراكية خصوصا، والعلمانية عموما، وبدأت أفواج الشباب المجروح في كرامته تيمم وجهها شطر الفكرة الإسلامية، بعدما يئست من وعود الخطاب الفعلي، في شكل هزائم وانكسارات قاسية، وفي شكل فقر وأمية وتخلف متزايد. ومن تلك الأفواج المقبلة إلى الفكرة الإسلامية اقتطع التيار السلفي التكفيري نصيبا. ثم جاءت بعض الأحداث الكبيرة التي هزّت العالم عامة والعالم الاسلامي خاصة، مثل الثورة الايرانية، واتفاقية كامب ديفيد والتدخل السوفياتي في أفغانستان، والنجاحات الكبيرة التي سجلها المجاهدون الأفغان في مواجهة آلة الحرب السوفياتية الضخمة... جاءت تلك الأحداث لتضخ دماء هادرة صبت في طواحين التيار الإسلامي عامة، وأعطت مبررات جديدة داخل هذا التيار لاتجاه العمل الجهادي الثوري... وهكذا بدأت المواجهات المعزولة بين رجال الشرطة من جهة، وبين بعض الشباب الناقم من الذين لا يريدون الأخذ بثأرهم من جلاديهم... بدأت تلك المواجهات، تصبح رويدا رويدا اتجاها متزايد التأثير، يتسع يوما بعد يوم، ويتجاوز حدود مصر ليصبح ظاهرة عربية. وكان ذلك ثمرة أسباب كثيرة نذكر منها:
أولا: انتشار ثقافة سلفية سطحية تبسيطية منغلقة، شهدت رواجا كبيرا بعد الوفرة النفطية التي أتاحت طباعة وتوزيع كميات كبيرة من بعض الكتيبات التي سقط كثير منها في إحياء مواريث الانحطاط والصراعات الكلامية والمذهبية القديمة التي عفا عليها الزمن، وشغلت كثيرا من الشباب قليلي الحظ من التعليم والثقافة بقضايا ميتة، أقامت بينهم وبين العصر حواجز سميكة. وساهمت كتابات الشهيد السيد قطب رحمه الله في تغذية هذا التيار الذي وجد في تراث الحركات الخارجية وفي أدب الجهاد والاستشهاد معينا خصبا ربّى عليه أتباعه.
ثانيا: عمل سري دؤوب امتد لفترة زمنية طويلة نسبيا، لعناصر من الطلبة الذين درسوا في مصر في الستينات والسبعينات، وأخذوا الفكرة الجهادية من رموزها ومؤسسيها في مصر، أو من الذي تتلمذوا في مصر وخارجها على كتابات سيد قطب رحمه الله التي كتبها في زمن المحنة.
ثالثا: سيطرة مناخات الاحباط والفشل على الأصعدة الثقافية والسياسية والاجتماعية، أدت إلى شيوع رغبة شعبية جارفة في التغيير، ووجهت بالمزيد من الانسداد والتكلس في قنوات التغيير السلمي والديمقراطي في كل البلاد العربية، الأمر الذي جعل الكثيرين يفكرون في خيارات أخرى للتغيير غير الخيارات المدنية والديمقراطية.
رابعا: سقوط مدوّ لإيديولوجيات الحكم في كثير من الدول العربية، وهي الأيديولوجيات التي قامت خلال ما يقرب من نصف قرن على تحرير فلسطين واستعادة المقدسات... ثم لاحظنا فجأة ومن دون مقدمات كثيرة، كيف تسابقت أكثر الأنظمة العربية، نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني تسابق الذباب الى سلال العنب المتعفن... متخلية عن خطابها القديم وأيديولوجيتها التي كانت بمثابة ركيزة حكمها طيلة نصف قرن... وهكذا أضحت معظم الأنظمة تقيم حكمها على ما يشبه الفراغ والعراء الايديولوجيين، عاجزة عن التبشير بمشروع جديد، وغير قادرة على أن تصنع أملا أو أن تؤطر الناس في برنامج وطني أو قومي أو اسلامي... تحكم مجتمعاتها بالغلبة والقوة العارية، ويكاد سندها ومبرر حكمها الوحيد يكون محصورا في أجهزة الأمن وأدوات الإخضاع والمراقبة والعقاب دون غيرها.
بدأت غيوم كثيرة تتلبد في السماء العربية، وأخذ كل شيء يقود الى تعظيم الخيار الجهادي واعطاء شرعية في النفوس، كوسيلة للرد على الحكومات الظالمة والفاشلة على كل الجبهات والأصعدة، والتي اغلقت منافذ التغيير، وسدت الطرق في وجه الفكرة الاسلامية، وطبّعت مع اسرائيل.
ثم جاءت التجربة الديمقراطية الجزائرية التي لم تعمر اكثر من ثلاث سنوات، وانتهت بانتخابات برلمانية ديمقراطية، فازت فيها الجبهة الاسلامية للإنقاذ بمعظم مقاعد الدور الأول، وكانت مهيأة للفوز بمعظم مقاعد الدور الثاني، مما كان يؤهلها بعملية حسابية بسيطة، إلى امتلاك غالبية تفوق ثلثي مقاعد البرلمان، ويمكنها بالتالي، نظريا على الأقل، من استبدال الدستور وإحداث تغييرات جوهرية في الدولة والنظام، فزحفت الآلة العسكرية العمياء، ودهست الدبابات والمجنزرات صنادق الاقتراع، وذهب تصويت الشعب الجزائري هباء منثورا، ونكل الجنرالات بالطرف الفائز في تلك الانتخابات والذي يفترض منه ان يسلم مواقع الحكم والتوجيه في الدولة، فإذا به يجد نفسه وقواعده العريضة موزعا بين السجون والمنافي والمحتشدات والمقابر.
فشل تلك التجربة الديمقراطية الواعدة غذّى الخيبة في قيام تجربة ديمقراطية ناجحة ومستدامة في عموم الوطن العربي، كما غذّى اليأس من التغيير السلمي المدني والديمقراطي وحينئذ بدأت تتعالى بقوة تلك الأصوات التي خبت وتلاشت في زحمة المد الديمقراطي في الجزائر، لتذكر بمقولاتها السابقة، ولتؤكد لمن له «قلب أو بصيرة» بأن الديمقراطية «نظام كفر» وانها ليست سبيلا لتحكيم الاسلام، وان الاسلام لا يمكن ان يمكّن له الا بحد السيف والقوة، وان الحكومات لا يمكن مواجهتا الا بأسلوبها نفسه. وهكذا بدأ التيار السلفي العمل المسلح الذي بلغ «قمة مجده» بين سنوات 1993 و1994 و1995، إلى الحد الذي اصبحت بفعله السلطة الجزائرية مهددة في وجودها تهديدا حقيقيا وجادا. وبين سنتي 1994 و1995 صار التيار السلفي «الجهادي» تيارا جاذبا بقوة، رجّت قوّة جذبه قناعات بعض القيادات الاسلامية من خارج هذا التياروعصم الله من عصم.
ومثل نار الهشيم التي تبلغ أوجها بسرعة ثم تخبو جذوتها بسرعة أكبر، بدأت قوة جذب هذا التيار تخبو سريعا. وجاءت الانحرافات الخطيرة التي عرفها العمل المسلّح في الجزائر، وانتهاء فصائله المتطرفة، الى تكفير المجتمع الجزائري جملة، وتكفير قياداته الاسلامية، بما فيها قيادات الجبهة الاسلامية للإنقاذ، وقتل بعضهم مثل الشيخ محمد السعيد وعبد الرزّاق رجّام، بتهم سخيفة من قبيل اتهامه باتباع العقيدة الأشعرية. ثم تورط هذه الجماعات في مجازر جماعية ضد عامة الجزائريين، وثبوت اختراقها من قبل المخابرات الجزائرية ومخابرات دول اخرى توظفها في أغراض تشويه الحركة الاسلامية ومن ورائها الفكرة الاسلامية والمشروع الاسلامي جملة.
كل هذه التطورات ادت الى تراجع زخم التيار السلفي «الجهادي» وهكذا تنامى الزهد فيه وفي وعوده العريضة وفي منهج عمله. وهكذا عاد الصواب الى عقول كثيرة، وبدأت المراجعات تجري في صفوف الذين وقفوا مع ذلك التيار وساندوه أو أملوا منه خيرا. ولعل التطورات الجارية على صعيد الجماعة الاسلامية في مصر، وهي من الجماعات الرائدة في تدشين خيار العمل المسلّح، وتوّجه غالب قياداتها البارزة والفاعلة الى تبني قناعات جديدة تقضي بوقف العمل المسلّح والعودة الى دائرة العمل السياسي الذي زهدت فيه زمنا طويلا ، دليل على الاحساس الكبير بمدى وحجم الأزمة التي انتهى اليها ذلك الخيار، إذ انتهى خيار العنف إلى مجرد لعبة بين أيدي قوى كبرى داخليا وخارجيا، تحقق بواسطته أغراضها السياسية والاقتصادية والثقافية والاستراتيجية، وتوظفه فيما يحقق مصالحها القريبة والبعيدة... وهذه شر نهاية لهذا التيار المنبت، الذي «لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» كما يقول الحديث الشريف. والآن في «الوقت الضائع» تأتي جماعة أبي حمزة المصري ربما لتقفل فصلا سيئا اسمه فصل التيار السلفي التكفيري
العدد 84 - الخميس 28 نوفمبر 2002م الموافق 23 رمضان 1423هـ