العدد 90 - الأربعاء 04 ديسمبر 2002م الموافق 29 رمضان 1423هـ

عن الكبسَة، السَّبحَة، وأشياء أخرى

يقال والعهدة على الرواة، إنها إحدى الأطروحات لشخص مجهول - ففي التداول الشفهي يحضر كل شيء إلا القائل نفسه، ويغيب المؤلف دون الحاجة إلى إماتته قسرا - مفادها أن أكلة «المجبوس» إحدى مخلفات الاستعمار، وهي من خططه التي تستهدف زرع الكسل والخمول في نفس المستعمر. وأيا يكن القائل ففي كتاب السعودي عبدالله المحيميد «تقشير، قراءات في الثقافة والمجتمع السعودي» قسم خاص لمعالجة موضوع الكبسة من منظار سوسيو- ثقافي مفاده أن هذه الأكلة لا تعكس السياق الصحراوي للبيئة السعودية، وأن ابتكارها لم يكن يتقصد وجبة غذائية صحية تتوافر فيها احتياجات الجسم الإنساني من العناصر الغذائية، كما أنها تسهم في إصابة الجسم بالترهل، وتساعد على النوم. لكنه يلمح إلى أن التواضع عليها بين أفراد المجتمع بهذا الشكل، قد يكون نتيجة لمزاحمة ناجمة عن توافر المطاعم / الأكلات متعددة الجنسية، وكأن العملية تشبثا بالهوية!!

بهذا المعنى ثمة نوع من التراسل بين الرواية الشفوية الأولى، وبين تدوين المحيميد لجهة الحد من الإنتاجية المفترضة.

وقد تناهى إلى علمي أن الكتاب قد أقر تدريسه في إحدى الجامعات السعودية، وسعدت بذلك، كون الكتاب يختلف كلية عن تلك الكتب التي يقر تدريسها عادة، والتي يستلزمها مقدمات ومداخل، وفصول، وخاتمات، وخلاصات، وثبت بالمراجع والتي قد يرجع أحدثها أحيانا إلى العقد السبعيني، بذريعة المنهجية الصارمة، إلا أن المحيميد فضل الاقتراب من موضوعاته ذات النسق الاجتماعي والثقافي بطريقة تذكرنا بما يفعله خالد البسام عندنا في مجال التاريخ، من دون أن يخل منهج اقترابه بتقديم المعلومة، والتحليل، بأسلوب بسيط ورشيق، وبطريقة وصوله إلى المطلوب بأيسر السبل.

ولعل أول ما نلحظه في هذا الكتاب، الدين الكبير الذي يدين به المؤلف إلى عالم الاجتماع الفرنسي الراحل بيير بورديو. فبمجرد شروعي في تقليب صفحاته حتى استحضرت فورا كتاب بورديو «أسئلة علم الاجتماع، حول الثقافة والسلطة والعنف الرمزي» - صدر مترجما في القاهرة العام 1995 - ، كما كان حضور المغربي عبدالسلام بنعبدالعالي بدوره قويا - هو الآخر - خصوصا في مؤلفه: «بين - بين» وسيصاب المرء بالدهشة والاستغراب في حال مقارنته بين الكتب الثلاثة المذكورة لجهة المحتويات، ومدى اقتراب كل منها في مواضع عديدة متشابهة، وإن كانت السياقات العامة مختلفة. لكنها جميعا تربطها روابط مشتركة مع بعضها بعضا مثل الحديث عن الأزياء، السوق اللغوية، الأذواق، والأكل، إلى غير ذلك مما ينحو نحو الظواهر الاجتماعية المختلفة، وقياس مدى التبدل الذي أصاب سلم القيم الاجتماعية، ومدى التغير على مستوى النظر على المستوى الثقافي بالمعنى الواسع للكلمة، إضافة إلى رصد مدى الاستبدال والتحوير الذي أصاب القيم، وتغير الدلالة بشكل عكسي.

الكتاب - كما أسلفنا - لا يشتمل على مقدمات نظرية، أو إيضاحات منهجية، أو تسويغات وتبريرات ابتدائية، بل دخول مباشر إلى لب الرصد، وقلب القراءة لظواهر اجتماعية معينة. أضف إلى ذلك أن ما يستجليه المؤلف في كتابه ليس ببعيد عما يدور عندنا من رصد لمعطيات اجتماعية معينة، وربما نجد استجابة للمطروح ينسحب على أرجاء المنطقة برمتها، مع الاحتفاظ ببعض الخصوصيات السعودية، والتي هي في الواقع حالات خاصة، وهي قليلة.

ومن بين الموضوعات المطروحة: لعبة الشطرنج/ العطور/ السبحة / الكتابة على الجدران / الصالونات الأدبية / إعلانات الوفاة / الشماغ / البحث عن الفقع / الوشم / المطار/ وغير ذلك. ولعل الثيمة التي تربط بين معظم هذه المسائل المطروحة: انزياحها وظيفيا على الهدف الرئيس المقامة من أجله، وتبدل الحمولة القيمية التي كانت وراء الإفراز والظهور، كالمسبحة التي تحولت وظيفيا إلى أداة من أدوات الزينة، والتمايز الاجتماعي، و التعبير عن الانتماء لناد رياضي معين، أو إعلانات الوفاة التي هي في الواقع إعلان من الحي عن مكانته الاجتماعية، أو الصالونات الأدبية التي تعكس وجاهة صاحبها، ووظيفيا لم تستطع أداء الدور المنوط بها.

وفي الكتاب الذي يحفل بتطعيمات وإحالات على أعمال، فوكو، التوحيدي، نيتشه، جاكبسون، ليفي شتراوس، هيجل، راسل، ليلى أبولغد، السينمائي دي نيرو، ينطلق المؤلف في معالجته من محاولة استقصاء السياق التاريخي والوظيفي، ومن محاولة لتتبع الجذر اللغوي للظاهرة / الظواهر، وانتهاء بتسجيل ملاحظاته المراد إيصالها. وهو كتاب يحمل لطائف وطرائف تستحق القراءة

العدد 90 - الأربعاء 04 ديسمبر 2002م الموافق 29 رمضان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً