قد لا يكون بدعا أن تبدأ دورية ما ينتظم صدورها بقوة، ثم تتلاشى هذه القوة بعد استفراغ الطاقة في عددها الأول أو الأعداد القليلة اللاحقة، وكم من دورية بدأت مجلجلة هادرة، حاملة وعودا وتنظيرات متعالية، لكن سرعان ما خفتت وبهتت ألوانها، وانسلت سريعا من الذاكرة لتتلقفها الأحاديث المستهجنة، والطٌرَف الباردة، ولا يتبقى منها غير الخربشات التي حملت ذواتا متضخمة، ورهانات مرتجلة، وشواهد ذلك كثيرة، إلا أن «ثقافات» التي يرأس تحريرها الناقد علوي الهاشمي خلال عمرها القصير جدا، منذ انطلاقتها في فبراير/ شباط الماضي، أكدت أنها رأس الحربة على صعيد الدوريات الثقافية المحلية، وهي في ذلك تلعب دور الشريان المغذي، الدافع بالدم إلى قلب هذه الثقافة ليعمل بدأب دون تعطيل. كما أفلحت لأن تكون مركز استقطاب، ومرام ارتحال من لدن العديد من الأسماء والتجارب المحلية العربية والعالمية ذات العطاء الوافر، والثقل العلمي والإبداعي المتين، ونجحت في إرساء تقاليد تجعل من النشر فيها خاضعا لضرورات كثيرة، على رغم نأيها عن شروط وموجبات التحكيم، التي قد تتخذ أحيانا صياغات شكلانية.
وبصدور العدد الثالث الذي جاء متأخرا قليلا عن موعده، تكون ثقافات قد أعلنت عن نفسها بقوة لتجدد فرص كونها رافدا رئيسيا لتزويد المتلقي بجرعة ثقافية بما يتغيّى ويطلب، وهذا ليس بمستغرب بالنظر لكونها تصدر عن مؤسسة وفرت لها شروط الاستمرار، وعلى فريق عمل متجانس في حمله للهمّ الثقافي، هذه العوامل وغيرها قمينة باستمرار المجلة، بل ودافعة لها إلى تحسين وتجويد ما تنتجه من ثقافة، وما تؤمنه لعموم القراء من مادة رصينة، تغذي المعرفة، وترتقي بالذائقة.
وفي هذا السياق فإن ثقافات لبنة تغذي وتضيف، كما أنها تتموضع في حركة متناغمة مع أخواتها مجلة البحرين الثقافية، ومجلة العلوم الإنسانية، ومجلة كلمات التي نتمنى لها عودا مظفرا في قابل الأيام.
ومع ما تقدم يمكن القول إن المتوقع من ثقافات يتجاوز ويفوق الموجود، على رغم الفرح بها، بالنظر إلى التنويع البديع في هيئتها التحريرية أو الاستشارية، وهو ما ننتظره في الأعداد القادمة، حتى تصبح إحدى المظانّ الرئيسة للثقافات والفنون. وجميل أن يكون رهان ثقافات منصبا لمصلحة المادة، غير منحازة في ذلك إلى اللوامع من الأسماء، على حساب جودة المادة وقيمتها العلمية والإبداعية، وحسنا فعلت بتقديمها تنويها تعتذر فيه عن تقديم ملف مخصص للشعر الفلسطيني لضعف مستوى المواد الواردة للمجلة، أو لأية ذريعة أخرى من شأنها أن تبخس حق باقي المواد، ومختلف المحتويات، ولا يضيرها ذلك إطلاقا، بل يصب في مصلحتها، على رغم ما قد يخلفه هذا الانطباع من شروط تعجيزية تضعها هيئة التحرير، في حين لا تتوافر في بعض المواد المنشورة شيئا من هذه الألمعية المدّعاة.
اشتمل العدد، على مواد متنوعة من بينها دراسة عن الهوية والتحديث في مملكة البحرين لمحمد نعمان جلال، وأخرى الثقافة العربية من أين وإلى أين للجزائري عبدالملك مرتاض، وثالثة كتبها فاضل ثامر بعنوان «المصطلح النقدي بوصفه تعبيرا عن الوعي المنهجي في الخطاب النقدي العربي الحديث»، وفي نقد الشعر دراسة بعنوان: «التشكيلات الحيوية في معمار القصيدة» لوليد مشوح، وفي نقد الرواية دراسة للمصري محمد بدوي عنوانها «أقنعة نجيب محفوظ، أفكار أولى حول كتابة الذات»، ويقرأ عمر شبانة تجربة شربل داغر الشعرية في ديوانيه «تخت شرقي»، و«حاطب ليل». وفي الإنسانيات يكتب أنور المرتجي عن جاك دريدا فيلسوف الكتابة والتفكيك، ومحمد الدعمي «الصناعة والزمن: أثر التكنولوجيا في طرائق الاستجابة للماضي»، ومن المترجمات دراسة لجان كليمان ترجمها نجيب غزاوي عن الحاسوب والنقد الأدبي، الحالة الإنسانية في فجر القرن الحادي والعشرين، وفي الفنون يقرأ عباس يوسف التجربة الفنية التي جمعته بعبدالجبار الغضبان. وفي باب النصوص ثمة قصائد لعلي الشرقاوي وعبدالمنعم رمضان، وفي السرد فصل من رواية أمين صالح «أشباح الريح... والذين هبطوا في صحف الدار بلا أجنحة» وقصة لحسين محروس وغير ذلك. وحاورت ثقافات في هذا العدد الناقد كمال أبوديب، والذي كان له إسهام آخر في هذا العدد، وهو عبارة عن الكلمة التي ألقاها بمناسبة تكريم إدوارد سعيد لنيله جائزة الاستشراق الألماني بعنوان «منح الأخرس صوتا». وغير ذلك من مواد نقدية وإبداعية متنوعة
العدد 90 - الأربعاء 04 ديسمبر 2002م الموافق 29 رمضان 1423هـ