العدد 2157 - الجمعة 01 أغسطس 2008م الموافق 28 رجب 1429هـ

الدير وسماهيج بين نارين!

نعم، إنهما بين نارين: نار حاضرة ونار قادمة؛ فالحاضرة هذا المطار الذي تنفث الطائرات المقلعة والهابطة في أجوائه كميات لا حصر لها ولا قياس من الوقود المحروق، الذي بدوره ينشر سحابة من المواد الكيماوية ذات الخطورة على الصحة بكل تأكيد، فضلا عن التلوث الضوضائي وهو من أخطر أنواع التلوث ما يجعل أهالي هذه المنطقة لا يسمعون جيدا. والنار القادمة تتمثل في مطار المستقبل الذي لم يجد القائمون على هذا المشروع أفضل من هذه المنطقة ليحاصروها ويمنعوا عنها حتى نسمة الهواء، والأخطر من ذلك ما تسرب من معلومات عن أراضٍ تم بيعها لبعض «الهوامير» كي يكتمل الطوق وتتفاقم المشكلة!... وأنا أتساءل هل ينظر من ينفذ هذه المشروعات الخطرة إلى أهالي هذه المنطقة على أنهم مجموعة من القطعان أو فئران تجارب؟!

هل يراد لسكان هذه المنطقة أن يموتوا موتا بطيئا من خلال هذه المحرقة التي وضعوا بين مصهريها؟! ألا توجد ذرة من رحمة أو شفقة أو إنسانية في قلوب أصحاب هذه المشروعات؟! ألا يحمل هؤلاء ولو أدنى درجة من الاهتمام بالبيئة؟ ومتى يدرك هؤلاء خطورة العبث بها؟!

إن من أكبر علامات التحضر الاهتمام بالبيئة، وهذا ما نلاحظه لدى الشعوب المتقدمة عند حدوث أي خطر يهدد البيئة مثل التلوث النفطي وغيره. فلماذا نحن على عكس الأمم المتحضرة؟ لماذا هذه القلوب المتحجرة وهذه الهمجية تجاه البيئة؟ لماذا لا تخصص مناطق بعيدة عن التجمعات السكانية لإقامة المطارات والمشروعات الصناعية بعد دراسة معمقة لجميع الظروف المناخية وخصوصا الرياح السائدة طوال العام؟

إن من يسلب كل هذه المساحات الشاسعة من البحر هل هو عاجز عن تخصيص مثلها للأغراض الصناعية؟ لماذا الإصرار على إقامة المطارات والمصانع خلف النوافذ وأمام الأبواب وفي الأزقة؟ لقد عم القبح كل أرجاء هذه الجزائر، وتحولت العروس ذات الثمانية عشر ربيعا إلى عجوز شمطاء شابَ وليدُها بعدما جُرِّدت من قلائد المشموم والياسمين، وبعدما انتزع منها وشاحها الأزرق الجميل... ألم يتعظ هؤلاء مما يحصل في المعامير؟!

أما بالنسبة إلى مطار المستقبل فلماذا الإصرار على الاستحواذ على ما تبقى من مسطح مائي بسيط لا يكاد يكفي لسباحة مجموعة من البط؟! هل ضاق البحر في الجهة المقابلة لمدرج المطار الحالي؟! لماذا لا يقام المطار بالاتجاه نفسه وتترك هذه القطعة البسيطة لهؤلاء المساكين من سكان هذه المنطقة ولو على سبيل التذكار، ليحكي الآباء والأجداد للأبناء والأحفاد، أنه كان لنا في هذه المنطقة جار اسمه البحر يسامرنا ونسامره، يبوح لنا بأسراره وحكاياه، ونفضفض له همومنا ومعاناتنا، فيبلسم جروحنا ويمسح دمعتنا بما يفيضه علينا من خيرات؟!

ألا يكفي من باع ومن اشترى ومن روج ومن سمسر ما اغتصبوه من أراضٍ شاسعة تصل مساحتها إلى أكثر من ضعف مساحة المحرق كانت منذ آلاف السنين مرابع لسكان هذه المنطقة يعرفونها شبرا شبرا وحجرا حجرا و «لحفا لحفا» (كهوف الأسماك وبيوتها) بل حتى الشقوق التي في القاع أعطوها مسميات توارثها الأبناء عن الآباء، والأجداد يعرفون كل شجيراتها وطحالبها ويحفظون أسماءها ويميزون بين ما يصلح للصيد وما لا يصلح ولأي موسم يصلح... كل ذلك ضاع واختفى بين عشية وضحاها، وأصبح الناس حائرين تائهين حتى الدموع جمدت في مآقيهم، لا يدرون ماذا يصنعون فهم كأم ذبح وحيدها الشاب ليلة عرسه، يسأل بعضهم بعضا هل ستحدث معجزة تزيل كل هذا الغصب؟

إن السمسرة على الأرض كالسمسرة على العرض، ومن يفرط في أرضه فهو بلا شك مستعد للتفريط في عرضه. لقد أصبح الناس في هذه المنطقة لا يملكون إلا الدعاء على كل من تسبب في هذه الكارثة. إنك كلما التقيت بأي مواطن في هذه المنطقة كبيرا كان أم صغيرا ذكرا أم أنثى - إن كان الآخرون يرونه مواطنا - لا تسمع منه إلا هذا الدعاء: «حسبي الله ونعم الوكيل على كل من تسبب في هذه الجريمة» إنهم يتمنون «تسونامي» يزيل كل هذه المغتصبات ويعيد البحر إلى سابق عهده.

إن هذه الدعوات تتكرر مع كل طلعة شمس وغيابها ومع كل إطلالة قمر وأفوله، ومع كل صوت مؤذن أو صياح طفل، ومع عبور أي طائر في أجواء هذه المنطقة، علما أنه لم تبق طيور إلا الغربان التي تنعب منذرة بالأيام السود المقبلة، ولم يبق لأهالي الدير وسماهيج إلا عزمة من عزمات المسئولين وصناع القرار في الدولة، وبشرى يزفونها لأهالي هذه المنطقة تحمل في طياتها تغيير موقع المطار ومنع إقامة المشروعات الصناعية وإقامة ساحل يعيد بعضا مما نهب من الأهالي من بحرهم الغالي... نكرر نداء الاستغاثة للمسئولين.

إبراهيم حسن إبراهيم صالح

العدد 2157 - الجمعة 01 أغسطس 2008م الموافق 28 رجب 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً