لم تعلن الأجهزة الرسمية الاحتفال في الذكرى الاولى لإعلان (الأمير) حمد بن عيسى آل خليفة تحوّل «دولة» البحرين إلى «مملكة» في 14 فبراير/شباط 2002، وهو اليوم نفسه من العام 2001 الذي وافق فيه المواطنون على الرؤية السياسية (ميثاق العمل الوطني) التي اقترحها الأمير الشاب حمد بعد أقل من عام على تسلمه مقاليد الحكم، للخروج من الأزمة التي كانت تعصف بالبلد، وبلغت أوجها في سنوات 1994 - 1998.
بتمام «البيعة الثانية» (البيعة الأولى كانت في الاستفتاء على عروبة البحرين قبيل الاستقلال) للعائلة الملكية (آل خليفة الكرام) من خلال التصويت الكاسح على الميثاق، دخلت البلاد عاما من الحراك، أفضى الى اعلان «مملكة دستورية»، وانتخاب خمسة مجالس بلدية (مازالت أدوارها باهتة)، وتشكيل برلمان نصفه منتخب، في مصالحة وطنية هي الأبرز في العالم العربي خلال هذه الفترة.
ويصف الشيخ علي سلمان الذي عاد بعيد التصويت على الميثاق من منفاه في لندن، وهو الآن زعيم لأكبر تكتل معارض، الفترة الواقعة بين 14 فبراير 2001 و2002 بأنها «سنة الآمال والتطلعات»، أما الفترة الواقعة بين 14 فبراير 2002 و2003، فيقول: «ميزتها قدرة مؤسسات المجتمع الرسمية والأهلية على خلق رؤى عاقلة، تأخذ في الاعتبار المصالح والأهداف المشتركة، في ظل عمل سياسي ينظر الى الميثاق والتغيير الدستوري بشكل مختلف».
ويرى النائب الثاني لرئيس مجلس الشورى «وعضو جمعية الميثاق» عبدالحسن بوحسين ان العام الماضي كان «مليئا بالايجابيات والسلبيات»، ويدعو المجتمع إلى أن يأخذ دوره في التغيير، وعدم الاكتفاء بتوجيه النقد.
الوسط - عباس بوصفوان
لا خلاف على أن قطار الإصلاح البحريني يسير، منذ انطلاقة «ميثاق العمل الوطني» في 14 فبراير/ شباط 2001، بدعم شعبي جارف (98.4 في المئة)، ولم يتوقف حتى يومنا هذا. بيد أن الخلاف يطرح التساؤل الآتي: هل هذه هي السرعة المناسبة للمسيرة الوطنية؟ وهل الأهداف التي تحققت بعد عام من إعلان البحرين «مملكة دستورية» تلبي الطموح الشعبي الداعم للميثاق؟ وماذا يعني عدم إيجاد حلول بعد لمشاكل سياسية مثل ملف حقوق الانسان، والمساواة بين المواطنين... وقضايا أخرى يتداخل فيها الجانب السياسي بالتقني مثل ملف البطالة؟
يمكن التقرير بأن الجميع يؤمن بالتدرّج، ومجددا يطر ح السؤال: أي تدرج هذا؟ هل التدرج على «الطريقة العربية» التي أجلت اليمقراطية ريثما تحرر فلسطين ويتحقق الانتصار على المشرو ع الاستعماري... إن المعارضة تريد المشي بسرعة أكبر للوصول إلى «حكومة ديمقراطية منتخبة»، وبعض الجهات الحكومية تفضل اللامشي، أو المشي بسرعة السلحفاة، ويبدو أن الخط التوفيقي الذي تتخذه حركة الاصلاح، هي السائدة الآن، لتحقيق قدر من التوازن بين مطالب الأجنحة المحافظة والاصلاحية في الدولة، والأماني التي يعلقها المواطنون. الحال التوفيقية - التي تميل في غالبية الأحيان باتجاه الرؤية الحكومية أكثر من ميلها إلى مطالب الناس، كما حدث في التغييرات الدستورية - ترضي ولا ترضي الجميع في الوقت نفسه.
ونجح مشروع الإصلاح في جعل جميع أطراف المعادلة الوطنية تتمسك بتلابيبه، وتدعمه، وتحرص على المحافظة عليه، على رغم تحفظاتها الجوهرية في أحيان كثيرة. في سنوات القمع والقهر التي تلت حل المجلس الوطني في أغسطس/ آب 1975 كان الحكم فيها يريد تسيير الأمور وفق نظرة أحادية الجانب... استمر القمع مستهدفا اليسار، في المراحل الأولى، ثم أدار انتباهه إلى اليمين، مستندا في ذلك إلى خبرة هائلة للتعامل مع الخصوم. بينما الخصوم كما هم دائما وأبدا، يتلقون ضربة على الخد الأيمن، ليستديروا إلى تلقي صفعة أخرى على خدهم الأيسر. ومحطات التلاقي الوطني - كما يقول عبدالله خليفة - نادرة، وحتى حركة الهيئة في العام 1956 لم تبلور تحالفا اجتماعيا وسياسيا عميقا باقيا، كما أن ذلك التجمع الفضفاض الذي أنشأته لم يعمر شهرا واحدا بعد اعتقال قادة الهيئة، وكذلك فإن حركة المعارضة الراهنة لم تستطع أن تبلور نفسها فكريا وأن تجذر نفسها تنظيميا أو أن تبلور تيارا وطنيا موحدا يلعب دورا تحويليا محوريا في إدراة الصراع الذي جرى بقيادة الدولة فقط، وليس بقيادة المعارضة.
لما طرحت فكرة التصويت على ميثاق العمل الوطني، كان التفاؤل الحذر سيد الموقف. لم يعرف حينها إلى أي مدى كانت السلطة صادقة في إحداث التغيير، ولا توحي التجارب القريبة مثل مبادرة العام 1995 على ارتياح. وشكلت الحكومة ـ من طرف واحد ـ لجنة إعداد للميثاق، اعتبرتها المعارضة مخيبة للآمال، كما كانت المسودة الأولي لنص الميثاق باعثة على القلق لجهة الصياغة والمضمون.
والآن، كثيرون ينتقدون التصويت على الميثاق باعتباره الخطوة التي مهدت للقفز فوق مكتسبات دستور العام 1973 التوافقية. وفي الواقع فإن خطوة تاريخية كالميثاق كانت ـ كما التوافق الحاصل في العام 1973 ـ من البوادر القليلة التي أدركت فيها أطراف المعادلة الوطنية، أن مطالبها لن تتحقق دفعة واحدة، ولابد من تقديم التنازلات المتبادلة. لقد كانت صيغة الميثاق حلا وسطا بين طرحين اثنين تجاذبا الصراع إبان حوادث التسعينات، رأي المعارضة الداعي إلى تفعيل دستور 1973، واعادة الاعتبار للمجلس التشريعي المنتخب، وجهة النظر الأخرى التي تتمسك بها الجهات الرسمية والداعية إلى إلغاء الدستور والمجلس المنتخب والاكتفاء بالمجلس الاستشاري المعين، فكان الحل الوسط: تعديل الدستور، وتشكيل مؤسسة تشريعية من مجلسين، كما يقر ذلك الميثاق المعتمد من المواطنين.
والحلول التوفيقية بدأت قبل ذلك بالشروط التي وضعتها المعارضة (للدقة بعض المعارضة) للموافقة على التصويت. كانت المعارضة تطالب بإيضاحات مكتوبة عن أن التصويت لصالح تشكيل مؤسسة تشريعية من مجلسين لا يمنح صلاحيات تشريعية للغرفة المعينة. قبلت الحكومة اعطاء تصريحات شفوية، لا مكتوبة، وقبلت المعارضة التصويت بـ «نعم». وكثيرون يقولون أنها فوتت فرصة تاريخية للحصول على المزيد من المكتسبات، وهذا صحيح، لكن الصحيح أيضا أن المعارضة ينقصها في أحيان كثيرة بعد النظر.
استمرت الحلول التوفيقية. وعمليا قبلت المعارضة اللعب ضمن معطيات دستور 2002، وتم التحفظ على صيغة المجلسين فيه، والمناداة بالعودة إلى مكتسبات - وليس - دستور 1973. من جهته قبل الحكم، تحفظات المعارضة على الدستور، وهي تحفظات خطيرة، لأن الدستور حجر الزاوية في أي حكم مدني. ومنعت الجهات الرسمية المعارضة من التعبير عن آرائها عبر التلفزيون، لكنها منحت فرصة واسعة للتعبير عن رأيها في المنتديات العامة والجماهيرية. واستمرت الحلول التوفيقية: فعلى الرغم من تحفظ المعارضة على الدستور، وصلاحيات البلديات، وتقسيم الدوائر الاتخابية، فإنها قبلت المشاركة في الانتخابات البلدية... وبالمقابل قاطعت الانتخابات النيابية. التجربة البحرينية على المحك، وأطرافها أمام اختبار حقيقي... ومخاوف المعارضة حقيقية من احتكار الثروة، واستمرار التجنيس، (مرة قال الشيخ علي سلمان إن أحد أبرز الضغوط التي مارستها الحكومة على المعارضة مسألة التجنيس العشوائي التي كادت أن تفتك بالبلد). تبدو المعارضة مدركة للصعوبات التي تواجه الحركة الاصلاحية، وهي لن تفرط بأية مكتسبات حدثت. أما الأطراف الحكومية فهي ليست أقل تمسكا بمشروع الاصلاح، لكنها تتوصل أيضا في داخلها، كما في داخل المعارضة، إلى حلول توفيقية.
وتبدو الحلول التوفيقية على رغم سوئها أكثر الابداعات في الحركة الاصلاحية.
قلت مرة لأحد المسئولين الكبار في وزارة الصحة: لماذا تبدو الوزارة أميل إلى اتخاذ إجراءات راديكالية لتحقيق الإصلاح داخل أجهزتها ومرافقها، وتراعي تضارب المصالح، وتبدأ بالحوار كي تخرج بأكبر قدر من التوافق تجاه القضايا المختلف عليها؟
العدد 161 - الخميس 13 فبراير 2003م الموافق 11 ذي الحجة 1423هـ