مرة أخرى نجد أنفسنا أمام «المنطق الداخلي» للشعر الجاهلي، ومنطق رواياته وشروحه التي تزيدت وركبت مراكب الخيال فابتدعت شخصية بشرية لما هو غير بشري، فكان «أدب الخيال» وجه العملة الآخر للحياة العقلية في المجتمع العربي إبان تطوره وصعود دولته، يقابله وجه التأليف العلمي في الفلسفة والرياضيات والطب والنقد الأدبي وغير ذلك. لولا هذا الوجه الآخر (الوجه العلمي الواقعي) لغلبت الخرافة على تراثنا العربي الأدبي، والخرافة مستحبة في بعض الادب، ولا سيما ذلك الأدب الذي وضع للتسلية والامتاع والوعظ بصورة إيحائية غير مباشرة.
ولكن ليس من الخرافة شعر جاهلي حافل بالمجاز والتخييل، فالمجاز غير الوهم، وانما هو تشبيهات واستعارات وكنايات وتوريات لم يستقم أمرها في شعر الجاهليين إلا لأنها وضعت بإزاء مقابلها في الواقع، وإن كنَّا قد شهدنا شعرا خرافيا كذلك المقحم على السير الشعبية، أو ذلك الموضوع على ألسن الجن. فهل قرأتم الصفحات الأولى من «جمهرة أشعار العرب» لأبي زيد القرشي؟
ما نحن بصدده أمر آخر... نحن بصدد شعر موضوعه «المثلث البحريني» وقد عنينا به ردينة وسمهرا والخط، وقد بدا لنا - على رغم جمالياته المجازية - شعرا واقعيا يسجل واقع العصر ويقدم إلينا صورة حقيقية للنشاط الحرفي والنشاط التجاري في شطر من هذا الوطن العربي في حقبة جاهلية لا يجوز نسبتها إلى الجهل.
ما كان غير واقعي هو بعض الشروح التي تزيدت فتطرق منها الى الحقيقة وهم كما ظهر لنا عند دراستنا الرمح الرديني في الحلقة السابقة. وها نحن من جديد تواجهنا شروح كان بعضها عبئا على الشعر الذي تحدث عن الرمح السمهري، فالشروح، أو بعضها رسمت صورة بشرية لصانع رماح بحريني، من الخط، واطلقت عليه اسم سمهر، كما رسمت صورة بشرية لصانعة رماح بحرينية واطلقت عليها ردينة!.
ونحن لا نشك في الشارحين جملة، ولا ننسبهم جميعا، ودائما، الى الوهم، فمنهم من شك في الروايات والشروح، فعبر شكه بالقول: «زعموا» و«قيل» و«يقال»، ومع ذلك بقي سمهر «رجلا» يصنع الرماح أو يقومها أو يبيعها، ويتزوج فلا ندري شيئا عن ذريته... لا ندري شيئا عن حياته الزوجية غير أنه زوج ردينة.
ولكنَّ سمهرا هذا شخصية ملتبسة الملامح، كما سيظهر لاحقا، فأحيانا «امرأة» (فلا تضحكوا) وهو يترجح بين أن يكون من أهل البحرين وبين أن يكون من أهل اليمن، وهو أحيانا صانع رماح، وأحيانا مقوِّم، وأحيانا تاجر يبيع رماحا لا نشك في أنها كانت تأتي من الهند والحبشة خامة فتقوم في الخط وما جاوره، وتركب لها أسنّة في محترفات قريبة من محترفات التثقيف، ثم تباع في سوق الخط أو تنقل منها الى القبائل والفرسان في الجزيرة العربية.
وإن الشك الذي حملنا على القول: إن ردينة - باعتبارها امرأة - أعجز من أن تستطيع الوفاء بحاجات الفرسان والجيوش الى الرماح، وأعجز من أن تعمر أجيالا، هو الشك الذي يحملنا على القول إن «زوجها» المزعوم سمهرا أعجز من أن يكون كما كانت. فهل قرأتم حديث حسان بن ثابت الشاعر عن الرماح السمهرية التي استعملت في وقعة «أُحُد» بين المسلمين والمشركين، وهل تساءلتم: كيف لسمهر (الرجل) أن يعيش الى أيام «أُحُد» وهو المذكور في شعر سابق على «أُحُد» بأجيال؟ يقول: حسان بن ثابت (1:9، 2:86 من ديوانه):
وفي أُحدٍ يَوْمٌ لهم مُخْزِيا
نُطاعِنُهُمْ بالسَّمْهَريِّ الذَّوابلِ
و«نطاعنهم» هذه صيغة مفاعلة، وهذا يعني أن الرماح السمهرية كانت في أيدي المسلمين والمشركين على السواء. فهل صنع سمهر كل ذلك، ولو ساعدته زوجه ردينة وعبيدها؟.
ليس الأمر كذلك. فلنقلب الروايات على أوجهها، ولنقابل النصوص بأشباهها.
سمهر باعتباره رجلا:
أكثر الروايات تميل الى أن سمهرا، الذي تنسب اليه الرماح السمهرية، كان رجلا يقيم في الخط، وإن ذُكِرَ - على ندرة - أنه من الحبشة أو أنه امرأة، نقرأ ذلك في ما أورده ياقوت الحموي في «معجم البلدان» (3:255) وشك فيه، قال: «وقول من قال ان سمهر اسم امرأة كانت تقوِّم الرماح فإنه كَلَفٌ من القول وتخمين».
وسمهر رجل في كتب التاريخ وكتب اللغة والدواوين الشعرية على السواء؛ ينقل جواد علي - رحمه الله - في كتابه «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» (5:425)، عن «الروض الآنف» (2:212) وعن «العمدة» (2:231) أن من الرماح العربية المشهورة نوعا «عرف بـ (الرمح السمهري) والجمع (الرماح السمهرية)، ذكروا أنها منسوبة الى سمهر، وكان صَنَعا يصنع الرماح».
وفي «المخصص» (ج2، السفر، 6، ص33): «أبوعبيد: والسمهرية منسوبة الى سمهر وهو رجل»، وفي «لسان العرب» لابن منظور (مادة سمهر) أن الرماح السمهرية - كما يقال - «منسوبة الى سمهر اسم رجل كان يقوِّم الرماح يقال: رمح سمهريٌ ورماح سمهرية. التهذيب: الرماح السمهرية تنسب الى رجل اسمه سمهر كان يبيع الرماح بالخط».
وقد مرَّ معنا في الحلقة السابقة قول عمرو بن كلثوم:
نُطاعِنُ ما تَراخَى النَّاسُ عَنَّا
ونَضْرِبُ بالسُّيوفِ إذا غُشِينا
بسُمْرٍ مِنْ قَنا الَخطِّيِّ لُدْنٍ
ذَوَابِلَ أو ببيضٍ يخْتَلينا
والبيتان من معلقته، وشارحوها كثر، منهم الزوزني الذي قال في «شرح المعلقات السبع» (ص 124 - 125): «يقول: نطاعنهم برماح سمر لينة من رماح الرجل الخطِّيِّ، يريد سمهرا»، وجاراه في ذلك شارح ديوان عمرو بن كلثوم (ص59)، ولم يقل ذلك أبوزيد القرشي في جمهرته (انظر ص77 - 78) ولا الأنباري في «شرح القصائد العشر الطوال الجاهليات» (انظر ص 395).
غير أن القرشي يجعل سمهرا رجلا، ويجعله من أهل اليمن، في شرحه قول لبيد بن ربيعة يصف بقرة وحشية:
فَلَحِقْنَ واعْتَرَتْ لها مَدَرِيَّةٌ
كالسَّمهرِيَّةِ حَدُّها وتَمامُها
قال القرشي (ص 70): «والسمهرية الرماح المنسوبة إلى سمهر وهو رجل كان يقوِّم الرماح باليمن» بخلاف الزوزني الذي اعتبره رجلا ولكن من الخط، قال (ص107): «والسمهرية من الرماح: منسوبة الى سمهر رجل كان بقرية تسمى خطّا من قرى البحرين، وكان مثقفا ماهرا فنسبت اليه الرماح الجيدة»، وجعله شارح ديوان كعب بن زهير رجلا «كان يقوِّم الرماح أو يبيعها بالخط»، شرحا لقول كعب (ص 104):
يُعَضِّضُهُنَّ عَضيضَ الثِّقافِ
بالسَّمْهَرِيَّةِ حتى تَلينا
وأشباه ذلك كثير في شروح الشعر الجاهلي.
سمهر باعتباره زوج ردينة:
ونختصر القول في هذا الباب، مادمنا قد ناقشناه في الحلقة السابقة، عند حديثنا عن ردينة باعتبارها زوج سمهر.
تتمة ما اقتبسناه قبل قليل من كتاب جواد علي (5:425) أن سمهرا «كان صَنَعاَ يصنع الرماح، وكانت امرأته ردينة تبيعها» (وجواد علي ينقل عن «الروض الآنف و«العمدة»).
وفي لسان العرب (مادة:ردن) أن الرمح الرديني «منسوب الى امرأة السمهري، تسمى ردينة، وكانا يقومان القنا بخط هجر»، وقد احترز ابن منظور فقدم لهذا القول بقوله: «زعموا»، وفي مادة «سمهر» ينقل ابن منظور عن التهذيب أن سمهرا «امرأته ردينة»، وقال مثل ذلك شارح ديوان الشماخ (ص340) نقلا عن صحاح الجوهري (مادة ردن)، شرحا لقول الشماخ:
رماحُ رُدَيْنَةٍ وبِحارُ لُجٍّ
غَوارِبُها تَقَاذَفُ بالسَّفينِ
ولكنه قال: «زعموا».
سمهر باعتباره بلدا:
وهو رأي لا نجده في الدواوين إلا عند شارح ديوان الأعشى (ص177)، شرحا لقوله:
جَبَهْناهُمُ بالطَّعْنِ حتى تَوَجَّهوا
وهَزُّوا صُدورَ السَّمْهَريِّ المُقَوّمِ
قال: «السمهري الرمح الصلب منسوب الى سمهر زوج ردينة اللذين كانا يثقفان الرماح، أو إلى قرية في الحبشة».
وأغرب من هذا الذي يجعل سمهرا وردينة حرفيين من الحبشة، اختلاط الحابل بالنابل في «معجم البلدان» لياقوت الحموي (3:255)، حتى لنجد أن منبع النيل في بلاد الهند!. قال ياقوت في مادة «سمهر»: «قرأت بخط أبي الفضل بن علي الصولي المعروف بابن برد الخيار قال: حدثني سليمان المدائني، قال حدثني الزبير بن بكار، قال: الرماح السمهرية نسبت الى قرية يقال لها سمهر بالحبشة، قلت أنا: وحدثني بعض من يوثق به أن هذه القرية في جزر من النيل يأتي من أرض الهند على رأس الماء كثير من القنا فيجمعه أهل هذه القرية ويستوقدون رذاله ويبيعون جيده، وهو معروف بأرض الحبشة مشهور».
ونحن نحسب أن هذا الاختلاط مرده الى أن أنابيب الرماح أتت بها السفن من الهند ومن الحبشة، إلى مرفأ الخط بالبحرين، إذ ثقفت ورُكِّبتْ لها اسنّة، وكانت جيدة، وكانت صلبة وهذا معنى أنها «سمهرية»
العدد 210 - الخميس 03 أبريل 2003م الموافق 30 محرم 1424هـ
سمهر اسم اقليم في اريتريا
سمهر اسم اقليم في اريتريا وعاصمته ميناء مصوع علي البحر الاحمر ، اغلب الظن ان السمهري تعني الرماح المستوردة من سمهر