الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا ومولانا وقائدنا وقرة أعيننا محمد صلى الله عليك وعلى آلك وصحبك يا سيدي يا رسول الله، كلما ذكرك الذاكرون وغفل عن ذكرك الغافلون.
يتسرع بعض الناس ويتجرأ على وصف الاحتفال بمولد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بأنه بدعة، ثم يتبع قوله هذا بـ «بأن كل بدعة ضلالة»، واضعا هذه الكلمة التي وردت في الحديث في غير موضعها، مدخلا فيها ما ليس منها من أمور الخير مستدلا بأن السلف لم يكونوا يحتفلون به، وهم أحرص الناس على الاتباع. وللإجابة عن هذه المغالطات ندع علماء السلف يتكلمون، ونرى قولهم في الاحتفال بمولد هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
أولا - قال كثير من العلماء: إن الرحمة في قوله تعالى: «قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا» (يونس: 58) هي النبي صلى الله عليه وسلم، إذ جاء في «الدر المنثور للحافظ السيوطي 4/367»: أخرج أبوالشيخ عن ابن عباس رضي الله عنهما في الآية: قال فضل الله العلم، ورحمته النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين» (الأنبياء: 107)، وكذلك قال الآلوسي في «روح المعاني 10/141» وأبوالسعود في «التفسير 4/156» والإمام الرازي في «التفسير الكبير 17/123». وهل المولد إلا إظهار للفرح برسول الله صلى الله عليه وسلم!!.
ثانيا - قال الله تعالى: «لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوة بكرة وأصيلا» (الفتح: 9)، ذهب المفسرون في تفسير هذه الآية مذهبين، المذهب الأول من وحد الضمائر، والمذهب الثاني من فرّق بينها، وخلاصة مذهب الأول أن الضمائر الواردة في الآية الكريمة إما أن تعود كلها إلى الله تعالى وإما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو رأي جماعة من المفسرين نقله عنهم الإمام الآلوسي في تفسيره «روح المعاني 26/266» فمن ذهب إلى أنها تعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنه عليه الصلاة والسلام أقرب مذكور في الآية، ولا يجوز التفريق بين الضمائر إلا لضرورة، ومعنى «تسبحوه» أي تنزهوه عن النقائص وتدعون له. والمذهب الثاني مذهب المفرقين بين الضمائر، إذ قالوا إن الضمير في «تسبحوه» يعود إلى الله تعالى، والضمير في «تعزروه وتوقروه» يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والاحتفال بالمولد وإظهار الفرح من توقيره وإجلاله صلى الله عليه وسلم.
ثالثا - قال الله تعالى: «لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإنْ كانوا من قبلُ لفي ضلال مبين» (آل عمران: 164). قال الإمام الفخر الرازي رحمه الله تعالى: إن بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إحسان إلى كل العالمين، ولقد شرَّف الله به العرب ونقلهم ببركة مقدمه صلى الله عليه وسلم من رعاة الشاة والغنم إلى قادة الشعوب والأمم، ورفعهم من عبيد الجاهلية إلى مقام السيادة والريادة. ونحن نحتفل بذكرى ذلك اليوم الذي كرَّم الله به هذه الأمة.
رابعا - ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يعظم يوم مولده ويشكر الله تعالى فيه على نعمته الكبرى وتفضله عليه بالوجود إذ سعد به كل موجود، وكان يعبر عن ذلك بالصيام. إذ كان يصوم يوم الاثنين، ولما سئل عن سبب صيامه؟ قال: «ذاك يوم ولدت فيه، وفيه أنزل عليَّ» (أخرجه مسلم في صحيحة 2/ 819 برقم 2738)، وهذا نص في احتفال بيوم مولده صلى الله عليه وسلم لا يحتمل غيره، ومن معنى الاحتفال الصيام، وإطعام الطعام، والاجتماع على الذكر وغيره من القربات.
خامسا - قال الإمام الحافظ بن شمس الدين بن الجزري رحمه الله تعالى في كتابه «عرف التعريف بالمولد الشريف»: قد رؤى أبولهب بعد موته في النوم فقيل له: ما حالك؟ فقال: في النار، إلا أنه يخفف عني كل ليلة اثنين بإعتاقي ثويبة (جاريته) عندما بشرتني بولادة النبي صلى الله عليه وسلم وبإرضاعها له، فإذا كان أبولهب الكافر، الذي نزل القرآن بذمه يخفف عنه العذاب كل ليلة اثنين بسبب فرحه بمولد النبي صلى الله عليه وسلم ، فما حال المسلم الموحّد من أمة النبي صلى الله عليه وسلم، الذي سر بمولده، ويبذل ما تصل إليه قدرته في محبته صلى الله عليه وسلم، وانه لا شك سيكون له أجر عظيم عند الله عز وجل؟
ويقول في ذلك الحافظ شمس الدين محمد بن ناصر الدمشقي في أبيات جميلة:
إذا كان هذا كافرا جاء ذمه
بتبت يداه في الجحيم مخلدا
أتى أنه في يوم الاثنين دائما
يخفف عنه للسرور بأحمدا
فما ظن العبد الذي كان عمره
بأحمد مسرورا ومات موحدا
سادسا - أقوال العلماء:
قال ابن تيمية رحمه الله في كتابه «اقتضاء الصراط المستقيم»: فتعظيم المولد واتخاذه موسما قد يفعله بعض الناس ويكون له فيه أجر عظيم لحين قصده وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن الحجر الهيتمي رحمه الله: والحاصل أن البدع الحسنة متفق على ندبها، وعمل المولد واجتماع الناس له كذلك، أي بدعة حسنة.
وقال السخاوي: لم يفعله أحد من السلف في القرون الثلاثة، وإنما حدث بعد، ثم مازال أهل الإسلام من سائر الأقطار والمدن يعملون المولد ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات ويعتنون بقراء المولد الكريم ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عظيم.
وقال السيوطي رحمه الله: هو من البدع الحسنة التي يثاب عليها صاحبها، لما فيه من تعظيم قدر النبي صلى الله علية وسلم وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف.
وقال الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله تعالى: وإكراما لهذا المولد الكريم فإنه يحق لنا أن نظهر معالم الفرح والابتهاج بهذه الذكرى الحبيبة لقلوبنا كل عام، وذلك بالاحتفال بها من وقتها.
ولابد أن نعلم أن الاحتفال بالمولد النبوي ليست له كيفية مخصوصة لابد من الالتزام بها، بل كل ما يدعو إلى الخير ويجمع الناس على هدى وذكر الله ومدارسة القرآن والسنة والاستماع إلى المدائح النبوية التي فيها ذكر صفات الرسول الله صلى الله عليه وسلم والى الإرشاد والمواعظ، فهذا من الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأما إذا كان الأمر المحدث مما لا يخالف الشريعة، بل يندرج تحت أصل من أصولها ويحقق مقصدا شرعيا، فهو ليس مردودا، وإنما هو من السنة الحسنة، ويدل على ذلك ما رواه مسلم من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء».
أخي القارئ ، إذا كان الكلام الذي ذكرناه من كلام الله وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم وأقوال العلماء الكرام ليس بدليل قاطع على إقامة احتفال بالمولد النبوي الشريف، فأين الدليل على حرمة إقامة الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن والسنة؟
وصلى الله على سيدنا ومولانا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
محمد البصري
العدد 252 - الخميس 15 مايو 2003م الموافق 13 ربيع الاول 1424هـ