سيظل جمهور الشعر الشعبي في المملكة محصورا في أمسيات شعرية، إذا أرادت الجهات المعنيّة أن تمنّ على الناس، وتقدّم كشف حسابها مع نهاية العام، تذكيرا لهم بأنها أقامتها في فنادق الخمس نجوم، وليست مهمة الأطراف في تلك الأمسية.
مملكة البحرين هي القطر العربي الوحيد الذي لم تتحرك مؤسساته - منذ سنوات - لتنظيم مؤتمر أو حتى ندوة تهتم برموزه أو فنونه، عدا عن التداعي لإقامة مؤتمر أو ندوة تُعنى بمحور من محاور الأدب الشعبي والثقافة الشعبية.
كل طاقة الجهات المسئولة أو المعنية تنصبّ في منصة وميكرفون وثلاثة شعراء، وأحيانا يتم تكديسهم ليصلوا الى 9 شعراء على منصة يلقي كل منهم بيانه الشعري الموزون والمقفى، وكفى الله المؤمنين شر القتال.
هذا تسطيح وتسخيف واستهانة - بل إهانة - للأدب والثقافة التي يتوهمون أنهم بذلوا طاقتهم القصوى في سبيل أداء دورهم المطلوب تجاهها. تسطيح لفهم ذلك الأدب والثقافة، وتسخيف لعقول وامكانات الذين يتوجه إليهم ذلك الأدب وتلك الثقافة، واستهانة بإمكانات رموزهما.
تنظيم أمسية يمكن أن يضطلع بمسئوليتها حتى الموكل بإعداد الشاي في بعض الأمسيات التي تنظم في جمعية الشعر الشعبي، أو الملتقى الأهلي. تنظيم أمسية شعرية ليس إتيانا بالمعجز من الأمر، وليس تخصيبا لليورانيوم، وليس تأهيلا للحصول على جائزة نوبل، ولو كانت للسلام.
اختزال الدور والأمانة في نشاط ثقافي مكرر وعلى درجة قصوى من السذاجة، والتعاطي معه كما يتعاطى أحدهم مع "هوشه وبوشه" يكشف عن طبيعة العقلية والتفكير اللذين يقفان وراء ترتيب ذلك الدور.
الدراسات للشعر في مملكة البحرين مهملة ومنسية، ولا أثر يشير الى أدنى اهتمام بهذه المسألة. مجمل التراث الذي يُطبّل ويُزمّر له ليل نهار، تراكم عليه غبار عقود من الزمن، عدا عن غبار العقليات التي من المفترض أن تتصدى لذلك الدور والمسئولية. الإصدارات المهتمة بالأدب والثقافة الشعبية تسجّل أدنى مؤشر لها بين جميع الاصدارات في العالم العربي. الفعاليات المنتظمة ضمن الاقليم، وبشكل مدروس وحرفي لا تعادل 1 في المئة مما يتم تنظيمه والالتزام به في دول المنطقة. الحوافز دون مستوى الصفر بألف درجة، وذلك أمر طبيعي في ظل انعدام الرؤية والخطط والبرامج، واذا ما توافرت تلك الحوافز يتم تكريسها في مناسبة وطنية سنوية يتم تمريرها (الحوافز) على المرضيّ عنهم، والذين خلقوا وجيناتهم تقودهم الى الحياة من أجل الظفر بتلك الحوافز. حتى الصحف باتت تتعامل مع الهوامش التي تتيحها للأدب الشعبي بمنطق الربح والخسارة، فعينٌ على الكلفة، وعين أخرى على المعلن الذي يضخ أموالا لترويج سلعته وحضوره، وهو بمعزل تام عن ذلك الأدب، ولا يهمه لا من قريب ولا من بعيد على أي بحر تنشر القصائد، أو حتى على أي برّ ترسو!
تبقى وزارة الاعلام في العميق من ذلك التغييب لذلك الدور وتهميشه، إذ على رغم تصديها لبعض المشروعات المهمة، وإن جاءت متأخرة (مشروع النشر المشترك نموذجا)، إلا أنها وحتى هذه اللحظة مازالت تنظر إلى الأدب الشعبي والثقافة الشعبية نظرة أقل من دونية، ولا يبدو أن في الأفق ما يشير الى أنها ستعمد الى اعادة النظر في موقفها، وخصوصا مع تشتت موازنتها واعتماداتها في الهش والواهن من المشروعات التي تتوخى أكثر ما تتوخى، امتدادا لحضورها، وإن لم يثمر ذلك الحضور عن فعل وانتاج حقيقيين، يظلان ثابتين في ضمير الزمن.
هل نحن بصدد صناعة من نوع آخر تتولى أطرافها جهات معلومة وغير معلومة؟ صناعة التسطيح والتسخيف والاستهانة، بل وأحيانا الاهانة؟ يبدو الأمر كذلك.
جعفر البرمكي عند الأصمعي
حدّث الجاحظ عمن أخبره، عن أنس بن أبي شيخ، قال: ركب جعفر بن يحيى ذات يوم، وأمر خادما له أن يحمل معه ألف دينار، وقال له: سأجعل طريقي على الأصمعي، فإذا حدّثني فرأيتني ضحكت فاجعلها بين يديه.
ونزل جعفر عند الأصمعي، فجعل الأصمعي يحدثه بكل أعجوبة ونادرة تطرب وتضحك، فلم يضحك، وخرج من عنده. فقال له أنس بن أبي شيخ: رأيت منك عجبا، أمرت بألف دينار للأصمعي، وقد حركك بكل مضحكة وليس من عادتك أن تردَّ الى بيتِ مالِكَ ما قد خرج عنه.
فقال له: ويحك! إنه قد وصل اليه من أموالنا مئة ألف درهم قبل هذه المرة، فرأيت في داره خبّا مكسورا وعليه درّاعة خلق (1) ومقعدا وسخا، وكل شيء رأيته عنده رثا، وأنا أرى أن لسان النعمة أنطق من لسانه، وأن ظهور الصنيعة أمدح وأهجى من مدحه وهجائه، فعلى أي وجه أعطيه اذا كانت الصنيعة لم تظهر عنده، ولم تنطق النعمة بالشكر عنه؟
جود ابن جعفر
كان عبدالله بن جعفر بن أبي طالب من الجود بالموضع المعروف، ولما قلّ ماله سُمعَ يوم الجمعة في المسجد الجامع وهو يقول: اللهم إنك قد عوّدْتني عادة فعودْتُها عبادك، فإن قطعتها عنّي فلا تبقني. فمات في تلك الجمعة، وذلك في أيام عبدالملك بن مروان، وصلّى عليه أبان بن عثمان بمكة، وقيل: بالمدينة. وهي السنة التي كان بها السيل الجحاف (2) الذي بلغ الركن، وذهب بكثير من الحجاج.
وقُبض عبدالله بن جعفر وهو ابن سبع وستين، وولد بالحبشة حين هاجر جعفر الى هنالك، وقيل: إن مولده كان في السنة التي قُبض فيها النبي (ص).
وذكر المبرّد والمدائني والعتبي وغيرهم من الاخباريين أن عبدالله عوتب على كثرة افضاله، فقال: إن الله تعالى عوّدني أن يفضل عليّ، وعوّدته أن افضل على عباده، فأكره أن أقطع العادة عنهم فيقطع العادة عنّي.
(1) أي ثوب بالٍ، والدرّاعة: ما يلبسه الرجل والمرأة في المنزل.
(2) الذي يأخذ ما في طريقه من أشياء ويجرفها.
العدد 1585 - الأحد 07 يناير 2007م الموافق 17 ذي الحجة 1427هـ