العدد 1607 - الإثنين 29 يناير 2007م الموافق 10 محرم 1428هـ

تبكيك عيني

اليوم يوم الواقعة، التي انتهكت فيها حرمات الله، وحرمات رسوله، حيث اختلت الموازين ومالت القيم.

في البداية، قطع الجيش الأموي الطريق على قافلة الحسين، وأرغموها على النزول في منطقةٍ صحراوية، وأرسل عمر بن سعد 500 فارس ليفرض عليها الحصار، وليمنع أصحاب الحسين من الوصول إلى الماء.

في مثل هذا اليوم، وقف الشهيد مع سبعين من أصحابه، أمام جيش يختلف المؤرخون في تقديره بين ثلاثة آلاف وسبعين ألفا... ففارسٌ من هذا العسكر يساوي ألفا من العسكر الآخر.

على رأس هذا الجيش الصغير ابن علي (أسبق الناس إيمانا)، وعلى رأس الجيش الآخر عمر بن سعد بن بي وقاص، (ابن أول من رمى بسهم في الفتح الإسلامي). موازين اختلت خلال نصف قرن، فجعلت ابن صحابي رئيسا على مفرزةٍ من جيشٍ من عبيد الدنيا، كل طموحه هو الفوز بملك «الريّ».

يبيت أصحاب الحسين ولهم دويٌ كدويّ النحل، بينما يبيت جيش بني أمية ليلا وهو يضرب الطبول لإقلاق مضاجع أصحاب الحسين وإزعاجهم، فهذا هو ما يضمن راحة الخليفة المتنعم النائم في قصور الشام. وفي الصباح الأخير يعلن غزوته الجديدة بنداء: «يا خيل الله اركبي، وبالجنّة ابشري»، فالطريق إلى الجنة أصبحت تمرّ على أضلاع الحسين!

كان الحسين (ع) جالسا محتبيا بسيفه، إذ خفق برأسه على ركبتيه، فسمعت أخته زينب الضجّة فدنت منه وقالت: يا أخي، أما تسمع هذه الأصوات قد اقتربت، فرفع رأسه وقال: «إني رأيت رسول الله (ص) الساعة في المنام فقال لي: إنك ترزح إلينا». فلم تملك نفسها إذ وثبت تجر ثوبها وصاحت: «واثكلاه، ليت الموت أعدمني الحياة، اليوم ماتت أمي فاطمة، وأبي علي، وأخي الحسن، يا خليفة الماضين وثُمال الباقين». فنظر إليها الحسين وقد زقزقت عيناها بالدموع وقال: «يا أخيّة، لا يذهبن بحلمك الشيطان... لو تُرك القطا ليلا لنام».

كان المصير واضحا، وإنه على بيّنة من أمره، فعند الظهيرة، سيبدأ «شيعة أبي سفيان» غزوتهم الجديدة، وسيكون الرأس المطلوب قطعه هو رأس الحسين، ليرفع على الرمح ويُدار به في البلدان، وتطأ جسده الخيول الأعوجية. وفي المساء يغير فرسان بني أمية على خيام الحسين، لينهبوا قلائد النساء، ويروّعوا الأطفال، ولا يتركوا الخيام إلا رمادا، ويغادر الجيش الظافر ليدخل الكوفة رافعا أعلام النصر، فقد قضى على الرجل الذي خرج على «إمام زمانه»، ليبقى جسده ثلاثة أيام ملقى على الأرض، حتى قيّض الله له جماعة من قبيلة بني أسد تواريه التراب.

اليوم، بعد قرون، كلما مرّ هذا اليوم، تجدّدت الذكرى لهبا في قلوب الملايين، تودّ لو تفديه بأرواحها، وتخرج إلى الشوارع تضرب على صدورها حزنا على ما أصابه من قتل، وما لحق بأهله وأطفاله من سبي وتشريد عبر البوادي والقفار.

الرجل الذي حرقت خيامه ولم يجد بيتا يؤويه، قيّض الله له من المحبين من بنوا له مليون بيت ومأتم، يُحيا فيه ذكره ويُشاد فيها بمناقبه وبطولته كل عام. ولأنه لم يكن مثله في التاريخ مثكولا رابط الجأش، فقد ذرفت عليه البشرية شلالات من الدموع ما لم تذرفه على أحدٍ قط... حتى قال عنه الشاعر:

تبكيك عيني لا لأجل مثوبةٍ

لكنما عيني لأجلك باكية.

وليبقى اسمه معلقا على جبين الدهر... يندبه محبوه عبر القرون: «يا قتيل العبرات»، ويسكبون على قبره من الدموع أمطارا... اللهم فارحم دموعا سكبناها في هذا اليوم حبا في الحسين، ومواساة لرسوله في قتل سبطه الذي خلفه في أمته.

قاسم حسين

العدد 1607 - الإثنين 29 يناير 2007م الموافق 10 محرم 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً