العدد 1683 - الأحد 15 أبريل 2007م الموافق 27 ربيع الاول 1428هـ

الطارق المجهول

أوشكت خيوط الشمس الذهبية على المغيب... سامحة لليل بأن يسدل ستائره المخملية الدامسة على تلك القرية... تلك القرية التي احتوت كوخا خشبيا كان بالكاد يحمي ساكنيه من وحشة الظلام وذئاب الليل... كان البرد قارصا وكأنه إنسان انعدمت فيه الرحمة... يريد تعذيب من احتواهم الكوخ بين ثناياه... وأي أشخاص تريد تعذيبهم أيها البرد؟!

طفل لم يبلغ نصف عقده الأول... انعدمت إشراقه وجهه الملائكية من شدة الجوع... وأرملة لم تتجاوز عقدها الثالث، ولكنها كانت تبدو أكبر من ذلك بكثير... فتلك التجاعيد التي خطتها آلام السنين على وجهها كانت كفيلة بأن تمحي جميع ملامحها المشرقة.

بكاء وصراخ يخرجان من بين زوايا ذلك الكوخ الخشبي... ذلك الطفل الصغير يصرخ بأعلى صوته طالبا لقمة يسد بها جوعه... لم تستطع الأم احتمال منظر ابنها الوحيد... ولكن عزة نفسها منعتها من طلب رغيف خبز من جيرانها... بكاء الطفل يزداد شيئا فشيئا وقلب الأم يتقطع كأنه ورقة خريف سقطت على الأرض فهشمتها أرجل المارة.

لو كانت تستطيع ان تخفف من بكاء ابنها لما توانت عن فعل ذلك، ولكن كيف لها أن تخفف من حدة صراخه وهي لا تملك حتى فتات خبر لتسد بها جوعه؟! انتصف الليل وازداد معه صراخ الطفل... في حين أن أمه تحاول تهدئته ولكن من دون جدوى... تمر الدقائق على الأم وكأنها سنين جاثمة على صدرها... طرقات خفيفة على الباب هزت قلب الأم خوفا.

كان كل ظنها أن تلك الطرقات تحمل معها فصلا جديدا من الآلام والحرمان... لم تعلم بأن بكاء ابنها سيتحول إلى دموع فرح... ولم تكن تدرك بأن صراخه سيتحول إلى ضحكات وابتسامات... فتحت باب الكوخ للطارق بعد تردد... فلم تجد أحدا... ظنت بأن الرياح العاتية هي مصدر تلك الطرقات... ولكنها انتبهت إلى صندوق كان بداخله أشهى أنواع الطعام وأطيبها... وبردتان... والعاب لطفلها.

وقفت مكانها... تبللت وجنتاها بالدموع... رفعت كفيها إلى السماء تشكر خالقها وتحمده وتدعو لمن أتى لها بهذا الصندوق بالخير... كان منظرها وهي رافعة كفيها بدموعها التي أطلقت لها العنان كنجمة تلألأت في سماء ليل حالك... كلمات الشكر التي وجهتها إلى ربها كانت بمثابة بلسم يشفي الجروح.

دعواتها كدواء للمرضى... كلماتها التي نطقت بها شفتاها تنم عن إيمان صادق بالرب الأوحد... أقبل الطفل الصغير لأمه وهي عند الباب... التفت لما كان تحت قدميها... تهلل وجه فرحا وانطلقت ضحكاته تخرق سكون الليل الموحش.

أدخلت الأم طفلها إلى ذلك الكوخ الخشبي حاملة معها الصندوق... أوصدت الباب ولم تنتبه إلى عينين كانتا تراقبانها عن بعد... عينان ترقرقت الدموع في مقلتيهما فرحا... عينان تشكران صاحبها على ما فعله... تلك كانتا عيني فاعل الخير... عينا صاحب الصندوق... عينا الطارق المجهول.

حوراء عطية

العدد 1683 - الأحد 15 أبريل 2007م الموافق 27 ربيع الاول 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً