العدد 1772 - الجمعة 13 يوليو 2007م الموافق 27 جمادى الآخرة 1428هـ

عباس والبحر

عباس والبحر... مشهد يتكرر سنويا، ولعل أسوأ ما فيه أنه يتكرر كل سنة دراسية، ويأخذ نصيبه من التوبيخ واللوم، من قبل والده في كل مرة يعود عباس من غير حقيبة!

والسبب أن عباس اعتاد أن يذهب إلى مدرسته الواقعة بالقرب من البحر، ولأنه يحب البحر حبا جما هو وأصدقاؤه في المدرسة وحتى وهو في الصف مع زملائه وعند خروجهم من المدرسة، يقفون يتأملون منظر أمواج البحر الزرقاء الهادئة، ومنظر القوارب الراسية تتقاذفها الأمواج يمنة ويسرى بجانب الشاطئ، أو القوارب الشراعية القادمة محملة بالأسماك، أو مشهد خروج الصيادين ومعهم شباكهم وعدتهم... مشاهد، ومشاهد ألفها عباس ولكنه لم يمل منها أبدا.

هذا وعباس ينسى نفسه، بل ينسى حقيبته المدرسية وحذاءه، والأسوأ ملابسه، أي زيه المدرسي!

وهكذا... تتكرر المآساة اليومية لوالديه كل سنة. وكم مرة جلب الصيادون حقيبته وحذاءه، فمن كثرة ما تكرر نسيانه إليها عرفوها أنها تخص عباس.

هذا وعباس أيضا له حلمه الخاص به وهو أن يكون ربانا أو قبطانا مرموقا يأمر وينهي البحارة، وأوامرة مطاعة كما هو يشاهد الربابنة يأمرون البحارة برفع المرساة أو بجرها من البحر أو بشد أحبال الأشرعة التي تنساب عبر العمود الخشبي (الدقل).

لماذا؟

حتى يعرفه أهالي الحي ويشتهر بينهم! وأبوه ينصحه دائما: يا عباس: إن ركوب البحر وصيد الأسماك ليست مستقبلك ولا مستقبل هذه الأجيال!

ولكنه يصر على ذلك، ولشده حبه للبحر زين غرفته بصور البحارة والصيادين، وبعض من صور الأسماك كسمكة القرش والهامور وبعض الأسماك الأخرى، والأسوأ أيضا في حياة عباس أنه متأخر في دراسته عن بقية زملائه وإخوته. إنه في الصف السادس الابتدائي ومهدد بالطرد من المدرسة أيضا لكثرة رسوبه.

لماذا؟

لأن فكره مصروف بصيد الأسماك والقوارب. ووالده محتار في أمره! وهذه مشكلة ظلت تتكرر لوالده ففي نهاية كل سنه دراسية يعود عباس حاملا شهادة الرسوب والدوائر الحمراء تطوق غالبية المواد، ماعدا مادة العلوم التي تتعلق بالبيئة كالبحر والأسماك! وهكذا، ظل عباس على هذه الحال مشغولا عقله ومصروفا بفكره بركوب البحر.

وفي إحدى الليالي أصيب عباس بحمى شديدة أقعدته في فراشه وراح يغط في حلم عميق، إذ وجد نفسه في وسط البحر بجانب أبيه في قارب شراعي صغير، وما إن توسطا البحر حيث مكان تواجد الأسماك، حتى هبت عاصفة قوية كادت أن تقلع قاربهم وترميه فوقهم... وهنا دب الخوف والجزع في عباس، وتذكر حبه للبحر وخاف أن يتحول إلى كراهية!

وفي الليل الموحش إذا بسمكة كبيرة جدا... سمكة القرش التى طالما كرهها البحارة واعتبروها نحسا عليهم!

ماذا فعلت هذه السمكة؟!

عباس يروي حلمه إلى أصدقائه أثناء عيادتهم له وبعد شفائه من مرضه في بيت أبيه.

لقد شطرت القارب الصغير إلى شطرين! شطر أمسكته بفكيها، والشطر الآخر تركته... وكأنها ترسل رسالة إيهم مفادها أن»صيدكم عائد إلي»! ... تبا لك من سمكة، ما أقبحك من سمكة! هنا تجرأ عباس وقال لأبيه:

أخذت الشطر الذي فيه صندوق الأسماك التي اصطاده البحارة، ولسوء حظي أنا وأبي وبعض البحارة في هذا الشطر، محاصرين بين الأمواج الزرقاء العاتية وبين هذه السمكة اللئيمة!

وماذا فعلتم؟... أكمل يا عباس، قطعت أنفاسنا وأنت بيننا!

«شاهدت أبي وللمرة الأولى في قوته وشجاعته ورباطة جأشه، قام لوحده يتحدى خطرها ويصارعها، وراح يغريها بصندوق السمك وهو يرمي لها سمكة سمكة كي يبعدها عنا، إلى أن اقتربنا من الجزيرة إذ نزلنا فوقها وراح يكمل معركته معها، إذ طعنها بالرمح في عينها فأفقدها الرؤية وولت مدبرة تجر أذيال الهزيمة!

وأنت، ماذا كنت تفعل؟!

أجاب: بقيت مرعوبا تلك الليلة تحت «الخن» (مكان لحفظ المؤن وأدوات البحارة) للقارب الكبير الذي أسعفنا عندما شاهدنا من دون قارب، ولم أخرج منه إلا في الصباح عندما وصلنا إلى الشاطئ!

وفي الصباح استيقطت من حلمي على أصوات الجرافات والمركبات الكبيرة التي راحت تزيل الجدار الاسمنتي الذي بناه أحد المتنفذين، الذي سرق البسمة من وجوه الأطفال الذين طالما سبحوا في بحرهم ولعبوا فيه، وحرم أهالي القرية الفقراء من رزقهم الوحيد الذين يعتاشون منه... وبجانبي أمي وأبي ممسكان يدي ويمسحان وجهي بالماء البارد لتخفيف حرارة الحمى!

«ما بك يا بني؟ إنك لم تنم البارحة فحرارتك مرتفعة وكنت تبكي تارة، وتصرخ تارة أخرى وتنادي بالعواصف وبسمكة القرش. والآن ما أخبارك يا عباس؟ هل ترغب في ركوب البحر وصيد الأسماك؟ أم هل ترغب في إتمام دراستك وتصبح معلما أو مهندسا أو طبيبا؟!

وهنا رتجل عباس وقال كلمته المشهورة:

إنني يا أبي مازلت متمسكا بالبحر، وبكل ذرة من ذرات ترابه. نعم هذا هو البحر الذي عاش عليه آباؤك وسنعيش عليه، وسأظل أحلم به كل يوم! وسأحتفظ لنفسي بصور ذكرياتكم وما تحملتموه من أجلنا وخصوصا صور السمكة الكبيرة (القرش) التي طاردتمونها وتخلصتم منها بعد جهد طويل يشبه تماما صبركم الطويل في مطالباتكم بتحرير البحر من المتنفذين المتربصين له وطردهم كي ينعم به الجميع.

ولن أقف بالقرب من الشاطئ مكتوف الأيدي، بل سأساهم في بناء مجد بلدي الحبيبة، درة الخليج (مملكة البحرين)، وذلك بالاهتمام بدراستي. نعم، هذه الليلة التي قال فيها عباس كلمته: نعم للمستقبل وللوطن وللبحر وللمدرسة، ووداعا للحلم بلا معرفة!

مهدي خليل

العدد 1772 - الجمعة 13 يوليو 2007م الموافق 27 جمادى الآخرة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً