من على المقهى على شاطئ تل أبيب حيث جلست مع المخرج الإسرائيلي عيران تبدو المدينة في حلة مرفهة، ببناياتها الشاهقة وشوارعها النظيفة تعج بالسيارات الفارهة.
على بعد مئات قليلة من الأمتار حيث تجولت مع الشاعرة الإسرائيلية نعومي تبدو الصورة مغايرة، والمشهد مختلفا... بيوت متهالكة، شوارع رثة، سيارات قديمة، مظهر الناس مختلف. ماذا حدث ؟ لاشيء يذكر، قطعت مسافة قصيرة مشيا على الأقدام من تل أبيب إلى يافا.
بين يافا وتل أبيب بحر، أو يمكن القول إن المدينتين تستلقيان على الشاطئ نفسه وتحتضنان الأمواج نفسه، ولكن كأنهما تنتميان إلى عالمين مختلفين.
مدينة تل أبيب أحدث طبعا فهي بنيت في وقت لاحق، ولكن ليس هذا كل ما هنالك، ففي يافا ينتابك الشعور وكأن الزمن قد توقف. تحس كأن البيوت التي بنيت قبل العام 1948 بقيت على حالها، من دون إصلاح أو ترميم. نسبة البيوت المبنية حديثا قليلة أيضا. طابع يافا عربي من دون شك، ولكن أسأل نعومي: أين سكان يافا العرب؟ فتجيب:
- إنهم حولك، في كل مكان.
- لا أسمعهم.
- ولكن ألا تراهم؟
- بلى أراهم فعلا، ولكن في كل مرة أهمّ بتوجيه الحديث إلى أحدهم باللغة العربية، فما إن أقترب حتى أسمعه يتحدث العبرية.
هذا كان كفيلا بأن يقنعني أنه ليس عربيا، إلى أن اقتربت من سيدة محجبة مع أطفالها، واعتقدت أنني وصلت، ولكنها كانت تحدث أطفالها بالعبرية هي أيضا!
هم عرب بالتأكيد، ولكن الكثيرين منهم يستخدمون العبرية في حديثهم إلى بعضهم بعضا. هناك أجيال منهم ولدوا بعد تأسيس دولة «إسرائيل». أو ربما هم يهود ولهم ملامح عربية، وهذا ليس نادرا.
كدت أيأس، لولا أن جاء الفرج: صرخ بي أحدهم بلغة عربية طليقة: لماذا تصورني؟
نزل عليّ صوته من السماء، وتوجهت إليه. لم أكن أصوره هو شخصيا، بل كنت أحاول التقاط صورة لمنزل متهالك آخر، وكان هو بالمصادفة يمر من هناك. أردت الحديث إليه فقال لي:
-لا أريد مشكلات.
- ولكن عن أية مشكلات تتحدث؟
- خرجت من السجن قبل فترة قصيرة.
- لماذا تعتقد أن الحديث معي سيدخلك السجن؟
- هذا يتوقف على ما تريد الحديث معي عنه.
غير معقول. قبل أيام أحسست بهذا الرعب يسيطر على الناس في البلدات المحيطة بالقدس. الكثيرون منهم رفضوا إعطائي أسماءهم، وآخرون اشترطوا علي ألا أذكر أي تفصيل من قصصهم قد يقود السلطات الإسرائيلية إلى التعرف إليهم.
ولكن، يقولون إن القوانين التي تسري في المناطق المحتلة تختلف عن تلك التي تسري في «إسرائيل». إذا، ما مصدر هذا الخوف؟
سلام مع الآخر... سلام مع الذات
عيران توربينر لم يخفِ عليّ أنه لا يمثل الغالبية الإسرائيلية بآرائه المنفتحة على الآخر، الفلسطيني. ولكنه على شاطئ تل بيب، وعلى بعد مئات الأمتار عن شاطئ يافا، كان يتحدث بمنتهى الاطمئنان ويدلي بآرائه السياسية التي لا تعتبر مقبولة في «إسرائيل». في تل أبيب ليس هناك خوف من الحديث. هذا عالم آخر.
حدثني عن قصة انتقاله من معسكر الغالبية التي ترى في الآخر عدوا، إلى الأقلية التي تحاول الاقتراب منه.
قال لي انه حين كان يخدم في الجيش الإسرائيلي أرسل في مهمة إلى قرية عربية لتفتيش أحد المنازل. حين دخل المنزل، الذي يفترض أنه يؤوي «إرهابيين» والتفتيش في هذه الحال يعني قلب محتوياته رأسا على عقب، فوجئ بوجوه مذعورة لأطفال ورجال مسنين.
ما كان من عيران إلا أن انفجر باكيا أمام رفاقه وسكان المنزل الفلسطينيين. أسرع الجنود إلى إخراجه من «الموقع» وتعرض لعقوبة عسكرية، ولكن تلك اللحظة كانت حاسمة في تغيير مواقفه السياسية.
التقيته للمرة الأولى في لندن، حيث كان يعرض أحد أفلامه الوثائقية عن أول حزب يساري إسرائيلي «متزبين» تجرأ في وقت مبكر، في منتصف الستينات، على الحديث عن السلام مع الفلسطينيين.
عيران كان مكتئبا طول الساعات القليلة التي قضيناها معا على المقهى في تل أبيب أثناء استماعه إلى حديثي عما شاهدت في الضفة الغربية والقدس، وفي نهاية الحديث قال لي: خذني معك إلى لندن، لا أريد أن أعيش في هذا البلد.
هو يؤمن بأن لا مستقبل للفلسطينيين أو الإسرائيليين إلا إذا تعلموا العيش معا، وهو يقول إن حلمه هو أن يكون ذلك في دولة واحدة من النهر إلى البحر، ولا يهم ما يكون اسمها.
عيران، بأفكاره هذه، لا يمثل إلا هامشا ضئيلا من المجتمع الإسرائيلي. اللافت للانتباه أن كل الإسرائيليين الذين القتيتهم قالوا إنهم يريدون السلام مع الفلسطينيين، أو كما قال سائق سيارة الأجرة أبراهام: «كنا والفلسطينيون مثل (الاخوانات) - أي الإخوان - ولكن جميعهم باستثناء اثنين، يحملون الآخر مسئولية استحالة العيش سويا».
واللافت للانتباه أيضا أني وجهت سؤالا محددا إلى من التقيتهم من سكان البلدات المختلطة، اليهود منهم طبعا، كم من العرب تعرف؟ والجواب: لا أحد! باستثناء عيران ونعومي طبعا... هما يعرفان شخصا واحدا التقياه في لندن وباريس على التوالي، وليس في بلدتهما: أنا!
عودة إلى يافا
كنت حريصا على أن أتجول في يافا برفقة نعومي، صديقتي الشاعرة المغمورة التي تغني في قصائدها للسلام والمحبة، وكأنها تنفخ في قربة مثقوبة، والتي تمثل حالا شائعة لـ «اليسار المتردد» في «إسرائيل».
نعومي لا تكره الفلسطينيين، على العكس، هي متحمسة للسلام معهم، ولكنها كغيرها تتحدث بنفس يجعلك تحس بأنها توجه جزءا كبيرا من اللوم إلى الآخر، وإذا اقترب الحديث من موضوع اللاجئين أو القدس، تتغير النبرة كليا.
مع ذلك كنت ألاحظ امتقاع وجهها كلما مررنا أمام منزل بائس في أحد أحياء يافا، وهذا كان هدفي من رفقتها في تلك الجولة. أريد فقط أن أرصد انفعالاتها.
نظرت إليّ وأنا ألتقط صورا للبنايات الشاهقة في الشاطئ المقابل، ونحن نقف في حي رث من أحياء يافا. فقالت:
- ماذا تريد ؟ المقارنة ؟ اسمع. يجب أن تعرف أن جزءا كبيرا من موازنة التطوير يأتي من ضرائب المواطنين، والضرائب التي يدفعها سكان يافا اقل من تلك التي يدفعونها في تل أبيب.
- لدي سؤال إذا يانعومي. من كان أولا؟ البيضة أم الدجاجة؟ نظرت إليّ، وامتقع وجهها مرة أخرى، ولكن سؤالي بقي من دون جواب.
العدد 1807 - الجمعة 17 أغسطس 2007م الموافق 03 شعبان 1428هـ