العدد 1950 - الإثنين 07 يناير 2008م الموافق 28 ذي الحجة 1428هـ

حملات وهمية... وانتشار ظاهرتي حجاج «الكارتون» وسماسرة الحج

ذكريات حجاج بيت الله (2)

قطعة صغيرة من الكارتون كانت ملائمة لأن يفترشها على عجالة متوسّدا حقيبته لتغفو عيناه بعد مشوار شاق امتد لساعات غير مبالٍ بشمس تلسعه لسعات غير مازحة ونظرات تستغرب تصرفه تارة وتشفق عليه تارة أخرى، إذ كان همّه الوحيد أن يغطّ في نوم عميق طوال اليوم ليستجمع قواه لأداء عمرة التمتع في اليوم التالي، وها هو الليل يحلُّ ويجرُّ أذياله وتشرق شمس يوم جديد ليفزّ ذلك الحاج من نومه لأداء الصلاة والسعي والتقصير متأبطا قطعة الكارتون لليلته التالية.

أين يأكل؟ وكيف يتنقل؟ وعلى أية وسادة تغطُّ عيناه؟ كان كل ذلك آخر ما يفكر فيه وها هو يعود بعد أداء فريضة الحج رغم ما واجهه من صعاب، ولعل قلة الحيلة أو الادخار كانا السبب لأن يحمل لقب «حاج الكارتون».

بحرينيون وأفارقة وآسيويون جميعهم من العزّاب كانت قطعة الكرتون رفيقة دربهم خلال موسم الحج، وأمست تبرعات خادم الحرمين الشريفين من الطعام والشراب مائدتهم في كل يوم فضلا عن مساعدة حجاج بيت الله، ولم يعدموا الوسيلة لإيجاد وسادتهم لتغفو عينهم في كل ليلة على حقيبة حوت بعض مقتنياتهم الشخصية البسيطة.

حملات وهميّة وحجاج في العراء

وإن كان حاج الكارتون سلك هذا الطريق بملء إرادته فقد وقع بعض الحجاج في مطبٍّ من نوع آخر إلا أن النهاية كانت واحدة. فقد أعد الحاج «خ. أ» العدّة وعقد العزم على تأدية فريضة الحج، ووصل مكة بعد أن اتفق مع المقاول على أن يستقل سيارته الخاصة ويلتحق به في فندق من المقرر أن يتم استجاره لحجاج الحملة في مكة. إلا أنه تفاجأ بما لم يخطر على باله، فلم يجد ذلك الفندق لا اسما ولا مبنى، وما زاد الطين بلة أنه لم يجد اسما للحملة ومقاولها، وكأنما باع ذلك المقاول أولئك الحجاج سمكا في الماء أو طيرا في السماء. ولأن موسم الحج موسم للتعفف والصبر والدعاء ومحاسبة الذات وتحمل الآخرين وضبط النفس فقد آثر الحجاج السكوت، إلا أنهم لم يتمكنوا إلا أن يطلقوا بعض عبارات العتب على ذلك المقاول المجهول باستحياء ماضين قدما وحاملين همّ عراء لا يرحم.

ولم يكن حال البعض الآخر من الحجاج وفق ما تشير إليه الحاجة «ز. ع» أفضل بكثير من حجاج الكارتون الواقعين في مكائد بعض المقاولين فقد وصلوا لمنى ينظرون يمنة وشمالا باحثين عن خيام كان من المزمع أن تأويهم ليصدموا بأن لا مأوى لهم، والمحظوظ منهم انحشر في خيمة ضاقت بالحجاج فيها لدرجة أن البعض منهم ينام وهو جالس في حين يصعب على البعض الآخر تأدية حتى الصلاة.

شمّاعة الأخطاء لا تبعد كثيرا عن المقاول في مثل هذه الحالات، وهو الذي تلاعب بالعدد المصرح له فإن كان أقصى حد لطاقة خيامه الاستيعابية لا يتجاوز الـ 200 حاج تراه يقبل في حملته أكثر من 600 حاج مصيرهم العراء والتعفف حفاظا على قدسية وروحية هذا الموسم.

بين كرّ وفرّ ومراوغة وتملّص هذا المقاول وذاك فتحت خيام الكشفية البحرينية أبوابها لبعض أولئك الحجاج، في حين تاه البعض الآخر، فيما حاول المعظم إيجاد سبيل آخر.

ذكريات لا تبعد كثيرا عما سبق تسطرها الحاجة «ز. ع» التي كانت محظوظة في سير قافلتها على جسر الملك ووصولها للميقات وتأديتها عمرة التمتع، بيد أن حظها تعثر في الفندق، إذ صدمت بأن الحمام في الفندق مشترك بينها وبين عدد من الرجال وهو أمر من شأنه أن يخدش خصوصيتها وحياءها في كل مرة تقصده فيها، في حين اتفق البعض على أن تكون لهم غرفة خاصة ليصدموا بأن فراشهم هو السابع أو حتى العاشر في تلك الغرفة الضيقة.

حوادث الحج... مميتة وأخرى طريفة

وبعيدا عن همّ المقاولين وتلاعب البعض منهم، لا يخلو موسم الحج في كل عام من حوادث يعدّ البعض منها مميتا والآخر طريفا، فقد روى أحد الحجاج «ح. ع» أنه غرق في دمه أثناء رميه للجمرات بعد أن أخطأت إحدى الحاجات هدفها متسببة له بجرح بليغ أدى إلى فقدانه الوعي، في حين وقعت مجموعة من الأبقار كانت تقلها سيارة على مقربة من بعض المارة من الحجاج أدت إلى إصابة أحدهم بجروح طفيفة جراء التزاحم للفرار من تدافع الأبقار.

ولعل حالات سوء التغذية والتسمم هي الأكثر على الإطلاق، فبعد أن سئمت الحاجة «ح. ج» انتظار وجبة العشاء حتى الساعة الثانية عشرة قصدت أحد المطاعم القريبة، وعلى خيفة تناولت القليل من الفطائر والمعجنات لتسكت أصواتا صدرت من معدتها إلا أن صوتها تعالي بعد منتصف الليل متلوية على الأرض ألما من مغص حاد ألمّ بها نتيجة تناول طعام ملوث نقلت على أثره إلى أقرب مستشفى، في حين سجلت بعثة المملكة الرسمية لموسم الحج 80 حالة تسممم جرى التحقيق فيها.

مضى على عودتها الكثير ومازالت تراودها الكوابيس ذاتها، فمنذ أن كانت تؤدي طواف الوداع وحتى الآن مازالت تستحضر ذكريات أليمة... أمسكت يد ابنتها التي لم تتجاوز الـ 15 عشرا متجهة لأداء طواف الوداع، وأثناء استراقها منظرا حاولت التركيز عليه لوقت لعلّ الله يكتب لها زيارة ثانية له مبهورة بخطوط شمسية براقة تحيط بسواد كله روحانية أفلتت يد ابنتها منها وداستها الأرجل خلال لحظات، وتعالى صوتها طلبا للمساعدة حتى انتشلت سواعد بعض الحجاج من الرجال ابنتها لترتمي في أحضان أمها التي جرّت أذيالها لتتابع النظر لذلك المنظر المهيب من بعيد ذارفة دموعها ألما لما أصاب ابنتها وحزنا على فراق هذه الأرض الطاهرة.

إن كانت الحوادث الأليمة كثيرة فإن الطريفة لا تقل عنها، فقد روى أحدهم أنه أثناء الطواف كان على مقربة من مجموعة من الآسيويين من الحجاج الذين كانوا يرددون خلف رجل يقرأ العربية، ومن الملاحظ أنه لا يفهم بعض الأدعية لدرجه أنه وصل إلى قراءة الهوامش في كتاب الأدعية وهم يرددون وراءه مكان الطباعة وسنتها.

وفي إحدى الحملات علم حاج أن سائق باص الحملة لا يتجاوز عمره العشرين عاما ولا يملك رخصة سياقة سيارات ثقيلة، وإنما رخصة دراجة نارية كان يستقلها أمام 12 حافلة لشق الطريق إلى مكة، فما كان من الحجاج إلا تركيز الدعاء على الحفظ من عثرات الطريق، وجاءت صدمتهم بأن ذلك الشاب اليافع أوصل جميع الحافلات في الوقت ذاته إلى الميقات.

وفي سطور الذكريات يذكر لنا حاج يحجّ حجته الأولى ولا يعي من حوادث هذا الموسم سوى ما يسمعه هنا وهناك، إذ عمد إلى التصدق بريال لأحد المتسولين فما هي إلا لحظات حتى انهال عليه جيش من المتسولين طالبين المزيد ليداس تحت أقدامهم، لولا تدخل بعض الحجاج وإبعاد المتسولين عنه وانتشاله من بين أيديهم.

ذكريات حجاج الـ vip

لم يعد السعر الضمان الوحيد لتقديم أفضل الخدمات في موسم الحج، فقد يعمد البعض إلى دفع مئات الدنانير مقابل خدمة دون المستوى تفتقر لأبسط سبل الراحة لا الكماليات والترف، بيد أن بعض الحملات غالت في أسعارها طارحة عروضا قبل موسم الحج رامية طعما أثناء موسم الحج بتوزيع نشرات تصف فيها خدماتها استعدادا لكسب مزيد من الحجاج العام المقبل.

واللافت هذا العام وفق ما تشير إليه ذكريات الحاج «أ. أ» أن بعض المقاولين عمدوا إلى توفير غرف خاصة بحمام خاص فضلا عن بعض الأجنحة للعائلات إلى جانب سيارات بسائق خاص من وإلى بيت الله الحرام، والأدهى توفير خدمة شبكة المعلومات (الإنترنت). ويضيع بين شد وجذب، وبين ضرورة التمسك بروحية هذا الموسم واستغلال أيامه للترفع عن ملذات الدنيا وبين المآزق والعراقيل حجاج آخرون ليسوا من فئة الـ vip ومع تلذذ البعض منهم بتلك المشقة شد المعظم الرحال للمدينة المنورة. ولحديث الذكريات بقية...

العدد 1950 - الإثنين 07 يناير 2008م الموافق 28 ذي الحجة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً