على رغم أن الخطاب الإسلامي الجديد يدرك أزمة الحداثة الغربية، ويدرك - أيضا - أنه لا يوجد أي مبرر لارتكاب أخطاء الآخرين وسلوك الطريق المسدود الذي أدى إلى أزمتهم، فإننا لسنا مثل الشيخ الجزائري الذي شم رائحة البارود ولم ير شيئا آخر في الحضارة الغربية الحديثة. نعم لقد قرأنا «الأرض الخراب» لإليوت، ومسرحيات بيكيت، وروايات كامي العبثية، وكتابات دريدا العدمية، ونعرف أن الغرب قد بنى بنيته التحتية من خلال عمليات النهب (التي أدت إلى التراكم الإمبريالي وليس إلى التراكم الرأسمالي كما يقولون)، ولكننا نعرف - أيضا - نظريات المعمار الغربية، وكيفية استخدام الحاسوب، ونظريات الإدارة المختلفة، والآفاق الواسعة التي فتحتها الحداثة الغربية، فنحن نعرف مزايا هذه الحداثة تماما مثلما نعرف أنها يمكن أن توردنا مورد الهلكة، وندرك أنها منظومة طرحت أسئلة محددة على العالم لا مناص من الإجابة عليها، فعقولنا ليست صفحة بيضاء، والبداية الإسلامية لا يمكن أن تكون من نقطة الصفر الافتراضية، ومن هنا تأتي ضرورة بل وحتمية الاشتباك والتفاعل مع الحداثة الغربية واستيعاب ثمراتها من دون أن نُستوعب في منظومتها القيمية. باختصار شديد: الخطاب الإسلامي الجديد لا يرى أي مبرر لاستيراد الحداثة الغربية بحلوها ومرها. كما لا يدعو لرفضها بحلوها ومرها، فهو يقف على أرضيته الإسلامية ويطور رؤيته للحداثة الغربية ثم ينفتح عليها ويوجِّه النقد لها ويتفاعل معها، وهذا ما يمكن تسميته بالانفتاح النقدي التفاعلي. (على عكس الانفتاح السلبي المتلقي أو الرفض الشامل المصمت الذي يتأرجح بينهما الخطاب القديم).
خطاب جذري توليدي استكشافي
- الخطاب الإسلامي القديم خطاب توفيقي تراكمي (وهذا نابع من تقبله لكثير من جوانب الحداثة الغربية)، إذ يأخذ أجزاء جاهزة من المنظومة الإسلامية (من دون أن يدرك أن الإسلام يقدم رؤية شاملة للكون)، ثم يضيف هذا إلى ذاك، أما الخطاب الجديد فهو خطاب جذري توليدي استكشافي لا يحاول التوفيق بين الحداثة الغربية والإسلام، ولا يشغل باله بالبحث عن نقط التقابل بين المنظومة الغربية الحديثة والمنظومة الإسلامية؛ فهو يبدأ من نقد جذري للحضارة الغربية الحديثة، ويحاول اكتشاف معالم المنظومة الغربية الحديثة (باعتبارها رؤية كاملة للكون)، والإمساك بمفاتيحها مع الاحتفاظ بمسافة بينه وبينها، وهو يعود للمنظومة الإسلامية بكل قيمها وخصوصيتها الدينية والأخلاقية والحضارية ويستبطنها ويستكشفها ويحاول تجريد نموذج معرفي منها، يمكنه من خلاله توليد إجابات على الإشكاليات التي تثيرها الحداثة الغربية وعلى أية إشكاليات أخرى جديدة، ويرتبط بهذا المنهج التوليدي المحاولات الحديثة الرامية لتجديد الفقه من الداخل، فهي لا تنبع من محاولة فرض المقولات التحليلية الغربية على المنظومة الإسلامية، وإنما تحاول أن تكشف المقولات الأساسية لهذه المنظومة، ويتم التجديد والإصلاح من خلال التوليد منها هي ذاتها، باختصار شديد: الخطاب الجديد - انطلاقا من أرضية إسلامية - يفتح باب الاجتهاد بالنسبة للمنظومة الغربية والموروث الثقافي الإسلامي.يصدر عن رؤية معرفية شاملة
- الخطاب الإسلامي الجديد لا يقنع باستيراد الإجابات الغربية الجاهزة على الأسئلة التي يطرحها عليه الواقع، ويتسم بأنه بالضرورة خطاب شامل، فهو على المستوى الجماهيري يطرح شعار (الإسلام هو الحل)، ولكن على المستوى الفلسفي يطرح شعار (الإسلام هو رؤية للكون)، وهو يتعامل مع كل من اليومي والمباشر والسياسي والكلي والنهائي؛ أي أن الخطاب الإسلامي الجديد يصدر عن رؤية معرفية شاملة يولد منها منظومات فرعية مختلفة: أخلاقية وسياسية واقتصادية وجمالية، فهو منظومة إسلامية شاملة تفكر في المعمار والحب والزواج والاقتصاد وبناء المدن والقانون وفي كيفية التحلي والتفكير، وفي توليد مقولات تحليلية مستقلة، ولذلك فالخطاب الإسلامي الجديد لا يقدم خطابا للمسلمين فحسب وإنما لكل الناس، حلا لمشكلات العالم الحديث، تماما مثلما كان الخطاب الإسلامي أيام الرسول (ص).
القدرة على الاستفادة من الحداثة الغربية:
- بسبب انفتاح الخطاب الجديد بشكل نقدي تفاعلي على الحداثة الغربية نجده قادرا على الاستفادة بشكل خلاق منها من دون أن يُستوعب فيها، فمقولات مثل: الصراع الطبقي، وضرورة التوزيع العادل للثروة، وقضية المرأة، وأثر البيئة على تشكيل شخصية الإنسان: هي قضايا كانت مطروحة داخل المنظومة الإسلامية، ولكن حساسية الخطاب الجديد وإدراكه المتعمق لها ازداد من خلال احتكاكه بالحداثة الغربية. كما أن حملة الخطاب الجديد لا مانع عندهم من الاستفادة بهذه الحداثة في اكتشاف آليات الحلول أو حتى الحلول ذاتها، طالما أنها لا تتناقض مع النموذج الإسلامي.
القدرة على إدراك أبعاد إنسانية جديدة:
- الانفتاح على المنظومة الغربية والتفاعل النقدي معها يجعل الخطاب الجديد مدركاَ لأبعاد كان من الصعب إدراكها من دون هذا التفاعل، فمسائل مثل: العلاقات الدولية، والكوكبة والبعد الكوني في الظواهر المحلية، وخطورة الإعلام والدولة المركزية، وزيادة وقت الفراغ، وعمليات التنميط التي تسم الحداثة الغربية هي: أمور لم تكن مطروحة على الإنسان من قبل. ومن ثم لم يطرحها الخطاب الإسلامي القديم.
القدرة على اكتشاف الإمكانات الخلاقة للمنظومة الإسلامية:
- اكتشف الخطاب الإسلامي الجديد أن الانفتاح على الحداثة الغريبة ودراستها بشكل نقدي خلاق قد يفيد في تنمية الوعي النقدي؛ فمن خلال معرفة الآخر والتعمق في معرفته سندرك الطريق المسدود الذي دخله، وحجم الكارثة التي يعاني منها، فنزداد معرفة وثقة بأنفسنا، وإدراكا لذاتنا بكل أبعادها، وسيساعدنا هذا الموقف المنفتح النقدي التفاعلي على اكتشاف الإمكانات التوليدية الخلاقة داخل المنظومة الإسلامية.
أسلمة المعرفة الإنسانية:
- يدرك الخطاب الإسلامي الجديد أن العلوم الإنسانية ليست علوما دقيقة عالمية محايدة (كما يدعي البعض)، وأنها تحتوي على تحيّزات إنسانية كثيرة تختلف بشكل جوهري عن العلوم الطبيعية، وأنها لا تفقد قيمتها لذلك، بل إنها تزداد مقدرة على التعامل مع ظاهرة الإنسان، وينبع الاختلاف بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية من أن الموضوع الأساسي للعلوم الإنسانية أي الإنسان لا يمكن ردّه في كليته إلى النظام الطبيعي/المادي، فالواقع الإنساني غير مترادف مع الواقع المادي على رغم وجود الإنسان في عالم الطبيعة / المادة، ولذلك فالخطاب الإسلامي الجديد يحاول أن يؤسس علوما إنسانية لا تستبعد الإنسان، ومن ثم فهي مختلفة في منطلقاتها وطموحاتها ومعاييرها عن العلوم الطبيعية، ولا نزعم أنها محايدة منفصلة عن القيمة، بل تعبّر عن المنظومة القيمية الإسلامية (وهذه هي إسلامية المعرفة).
- يدرك حملة الخطاب الجديد ما يسمى «العلم في منظوره الجديد»، وهو علم يحتوي على مفاهيم مثل: اللامحدد، ولا يتحرك داخل إطار المفاهيم السببية الصلبة التي كان يتحرك العلم القديم في إطارها.
تأسيس معجم
حضاري متكامل ومستقل:
- يدرك الخطاب الإسلامي الجديد أن مفردات المعجم الغربي ليست جزءا من معجم لغوي فحسب، وإنما هي جزء من معجم حضاري متكامل، فكلمات مثل «التقدم» تجسد مفاهيم، وتوجد داخل سياق حضاري مركب يحدد مضمونها ومعناها.
- من أهم ثمرات الانفتاح النقدي على الغرب إدراك تركيبية مقولة العقل والتناقضات الكامنة فيه، فكلمة «العقل» في المنظومة الإسلامية تحمل معنى محددا، وقد تصور الجيل السابق (بسبب إعجابه بالحضارة الغربية ولعدم تملكه لناصية خطابها الحضاري) أن كلمة «عقل» في المعجم الفلسفي الغربي الحديث مترادفة مع كلمة «عقل» في المعجم الإسلامي، ولذلك كان هناك إعجاب عميق بالعقلانية الغربية وبفكر حركة التنوير الغربية، ولكن الخطاب الجديد على علم بالدراسات النقدية الغربية في قضية العقل والتي قامت بتقسيمه إلى عشرات العقول: العقل الأداتي، العقل النقدي، العقل الوظيفي، العقل الإمبريالي، العقل المجرد... إلخ، كما تتحدث هذه الدراسات عن «نفي العقل»، و «تدمير العقل»، و «تفكيك العقل»، و «إزاحة العقل عن المركز»، ولذلك لم يعد من الممكن افتراض أن كلمة «عقل» وردت في المعجم الإسلامي مرادفة لكلمة «عقل» كما وردت في المعجم الغربي الحديث، ومع ظهور النزعات اللاعقلانية والعبثية في الغرب أصبحت المسألة أكثر وضوحا وتبلورا.
ويحاول الخطاب الإسلامي الجديد حل هذه الإشكاليات، فمثلا: في حال انفصال العلم والتكنولوجيا عن القيمة يحاول الخطاب الإسلامي الجديد الاستفادة من العلم والتكنولوجيا وكل ثمرات الحضارة الغربية من دون أن يتبنى رؤيتها للكون، إذ يمكن مزاوجة
التمييز والفصل بين إنجازات الغرب وبين رؤيته القيمية:
- يدرك الخطاب الإسلامي الجديد قضية انفصال العلم والتكنولوجيا والإجراءات الديمقراطية عن القيمة والغائية الإنسانية. الرؤية العلمية التي تدعي الحياد والمنظومة القيمية الإسلامية، بل ويسير الشيء نفسه على الديمقراطية، فمحاولة التمييز بين الديمقراطية والشورى هي محاولة لاستيعاب الإجراءات الديمقراطية داخل المنظومة القيمية الإسلامية إذ لا تصبح الإجراءات الديمقراطية المتجردة من القيمة هي المرجعية، وحتى تظل الإجراءات وسيلة لا غاية.
...يتبع
*باحث ومفكر مصري
العدد 2065 - الخميس 01 مايو 2008م الموافق 24 ربيع الثاني 1429هـ