تنتهي نائلة الوعري في كتابها «دور القنصليات الأجنبية في الهجرة والإستيطان اليهودي في فلسطين1840-1914»إلى التأكيد على أنّ القناصل المعينين في فلسطين فترة حكم الدولة العثمانية، وخصوصاّ منهم قناصل الدول الاوروبية، قد مارسوا الأدوار الموكلة إليهم من قبل بلدانهم بفاعلية، حيث عملوا على تمكين اليهود من التدفق إلى فلسطين والاستيطان فيها، فاعلية أداء مهماتهم الدبلوماسية تجاوزت حدود الصلاحيات المتعارف عليها، بل إنهم استغلوا هذه الصلاحيات الدبلوماسية لتحقيق أهداف استيطانية في فلسطين، على الرغم من أنّ موضوع الاستيطان لم يكن مطروحا خلال الفترة التي تناولتها الباحثة في كتابها بالشكل ذاته الذي طرح فيه في حقبات تاريخية لاحقة.
تفيد الوثائق النادرة التي تمكنت الباحثة من الحصول عليها، أنّ بعض القناصل تحوّلوا إلى تجّار و مالكي أراض، ومنهم بالخصوص نائب القنصل البريطاني بتروشيلي في حيفا، ولم يكتف هؤلاء بتملك الأراضي وإنما عملوا على نقل هذه الملكيات إلى اليهود فكانت النتيجة أنْ أصبح اليهود مالكين لمساحات شاسعة من الأراضي.
بحث نائلة الوعري في أداء القناصل الذين تداولوا على الأراضي الفلسطينية خلال الفترة من 1840إلى1914، أوصلها إلى حقائق قد لا ترد على الخاطر وقد لاتصدق، إذ من الصعب بمكان ان تصدق أنّ قنصلا إنجليزيا قد تسلل ليلا في قاربه إلى سفينة تحمل يهودا يرغبون في دخول فلسطين، ومنح كل فرد من هؤلاء اليهود جواز سفر مزيّف باسم وديانة ووظيفة مزورين تضليلا للسلطات العثمانية التي كانت تحكم البلاد في تلك الفترة، ثم يشملهم باهتمامه وحمايته بعد دخولهم البلاد.
تقول نائلة الوعري -وهي كاتبة بحرينية من أصل فلسطيني- في كتابها الذي صدرت طبعته الأولى سنة2007 عن دار الشروق للنشر والتوزيع أنه «من الأهمية بمكان أنْ نشير إلى أنّ قناصل الدول الاوروبية قد نجحوا في إثبات وجودهم الفعلي على الأرض الفلسطينية، ونجحوا كذلك في بناء مركز موازٍ ومكانة كبيرة لهم في مواجهة الإدارة العثمانية.» وترجع الكاتبة هذه الفاعلية التي صبغت أداء القنصليات الأوروبية لمهامها في الأراضي الفلسطينية خلال الفترة من 1840-1914 إلى استناد القناصل «بقوّة إلى بنود الإتفاقيات و المعاهدات التي عقدت، و الإمتيازات التي منحها العثمانيون للدول الأوروبية والتي أصبحت فيما بعد المبرر القانوني والسند الإداري لممارسة أنشطتهم وتدخلاتهم.»
وبرغم تنبه السلطات العثمانية إلى الممارسات المشبوهة للقناصل الأوروبيين داخل الأراضي العثمانية عامّة والفلسطينية خاصة، فهي لم تتمكن من إيقاف هذا الخطر.
يصنف كتاب»دور القنصليات الأجنبية في الهجرة و الاستيطان اليهودي في فلسطين 1840-1914» ضمن المراجع التاريخية المهمة، ذلك أنّ الكاتبة استندت في مؤلفها، الذي هو في الواقع رسالة الدكتوراه التي قدّمتها، على مجموعة من الوثائق النادرة من مراسلات بين القنصليات الأوروبية ووزارات الخارجية التي ترجع إليها بالنظر، وملفات من سجلات المحاكم في القدس والضفة علاوة على الكتب والمراجع العربية والأجنبية التي تطرقت إلى موضوع الاستيطان.
يحتوي الكتاب على 403 صفحات من الحجم المتوسط، تضمنت خمسة فصول تناولت فيها الباحثة بالدراسة النظام القنصلي في فلسطين 1840-1914 وتطرقت فيه إلى مصطلح الاستيطان اليهودي موضحة علاقة القناصل المباشرة في عملية التهجير و الاستيطان، الفصل الثاني اهتمت فيه الباحثة بتحديد الأطماع الأوروبية في الولايات الشامية وفلسطين خلال الفترة الزمنية ذاتها، اما الفصل الثالث فقد خصصته لإبراز الدور الذي لعبه قناصل الدول الأروبية لتسهيل وتشجيع هجرة اليهود إلى فلسطين.
وفي الفصل الرابع من الكتاب استعرضت نائلة الوعري موقف الدولة العثمانية من النشاط القنصلي والهجرة اليهودية والاستيطان في فلسطين، مخصصة الفصل الخامس والأخير من بحثها لمسألة النشاط اليهودي في فلسطين والحركة الصهيونية التي تناولت فيها بالدرس خصوصا الآثار السياسية لحركة الهجرة اليهودية والاستيطان في فلسطين بالإضافة إلى التعرض إلى «مؤتمر بازل في سويسرا العام1897 وتداعياته على مجمل الواقع الفلسطيني».
وتجدر الإشارة إلى أن الباحثة الفلسطينية الأصل، ضمنت كتابها الذي نصت في بدايته على أن يذهب ريعه إلى مؤسسة القدس لدعم مشروعات تنموية في مدينة القدس، ضمنته مجموعة مهمة من الوثائق التي استندت إليها في بحثها ومنها على الخصوص وثائق بيع ونقل ملكيات إلى اليهود من غير حاملي الجنسية العثمانية بالإضافة إلى بعض رسائل قناصل بريطانيين إلى السلطات العثمانية طلبا لبعض الامتيازات لفائدة اليهود الذين كانوا يعيشون في فلسطين على أنهم رعايا بريطانيون.
العدد 2085 - الأربعاء 21 مايو 2008م الموافق 15 جمادى الأولى 1429هـ