احتشدت القاعة بالحضور فيما وضع تييري فريمو المدير الفني لمهرجان كان السينمائي الدولي الكوفية الفلسطينية على كتفيه هدية من المخرجة آن ماري جاسر وهو يقدّمها مع فريق فيلمها «ملح هذا البحر» ومنتجيه بعد ظهر الجمعة الماضي.
وعرض هذا الفيلم الأوّل للمخرجة في إطار قسم «نظرة خاصة» الذي يتضمن فيلما عربيا آخر وهو فيلم لبناني يتنافس مع «ملح هذا البحر» على جائزة الكاميرا الذهبية.
وبين منتجي الفيلم المتعددي الجنسية الحاضرين في كان الممثل والمنتج الأميركي داني غلوفر الذي ألقى كلمة قال فيها: ان «الفيلم قصة عاطفية وحكاية عن الذاكرة وأنا فخور بأني كنتُ من بين منتجي هذا الفيلم».
وأنتج الفيلم بأموال سويسرية وبلجيكية وإسبانية وبريطانية وهولندية بالإضافة إلى أموال أميركية وفلسطينية بينما ستتكفل شركة «بيراميد» الفرنسية بعملية التوزيع.
وقالت آن ماري جاسر خلال تقديم فيلمها في عرضه الأول عالميا أنها «فخورة بأن يعرض الفيلم في مهرجان كان وتحديدا في الوقت الذي أحيا فيه الفلسطينيون ذكرى مرور ستين عاما على النكبة».
وبثت في القاعة قبل تقديم الفيلم موسيقى أغنية «يا بحرية» لمارسيل خليفة قبل أن تعود في بداية الفيلم ناقلة صورة لبحر يافا التي رحل جد بطلة الفيلم منه على مراكب صيد صغيرة كتلك التي عرضتها المخرجة في بداية الفيلم مع صور فوتغرافية أخرى عن رحيل الفلسطينيين العام 1948.
ويحكي الفيلم قصة الشابة الفلسطينية ثريا (سهير حماد) التي ولدت في بروكلين بنيويورك وقررت العودة للإقامة في بلدها الأصلي فلسطين. لكن بمجرد وصولها الى المطار حاملة جوازا اميركيا تكتشف معنى الحواجز والإغلاق ومعنى أن تكون فلسطينيا. ثم تذهب ثريا الى رام الله حيث تلتقي بالشاب عماد (صالح بكري) الذي يحلم بالحصول على تأشيرة للرحيل إلى كندا.
«ملح هذا البحر» يثير قضية الهوية تحديدا الهوية الفلسطينية. هذا ما تقوله ثريا للجندي على الحاجز «أنا من هنا» وحين يسألها عن معنى أن يكون جواز سفرها أميركيا تجيبه «بأن الجواز على عكس ما يرى الفلسطيني».
ويسير الفيلم على أكثر من مستوى. فهناك مستوى واقعي مرتبط بقصة شابين ينجذبان الى بعضهما ومستوى رمزي. فالبطلة حين تذهب لزيارة بيت جدها في «يافا» الذي تسكنه إسرائيلية والذي بقي كما هو تقول إنها مستعدة للتخلي عنه للاسرائيلية لكنها تريد اعترافا بانه كان لها ولأهلها وسرق منها.
وعلى المستوى السياسي يقول الفيلم: إن الفلسطينيين مستعدون للاعتراف بـ «إسرائيل» اذا ما اعترفت هي بحقهم واذا لم يستمر الكذب على الأجيال المقبلة في الدولة العبرية. وحين تذهب ثريا لاستعادة حق جدها من الأموال التي كان يودعها في «المصرف الفلسطيني البريطاني» يقول لها الجميع لماذا عادتْ لكنها تجيب باستمرار انها من هنا وإن الأوراق لا تصنع هوية. وعندما تفشل في استعادة حق جدها الذي تحفظ المصرف على أمواله بعد النكبة تسطو مع رفاقها على المصرف وتستعيد فقط المبلغ الذي تم التحفظ عليه وبعض الأموال الأخرى «كفائدة».
اللافت في الفيلم أن كل شيء فيه صوّر بعيدا عن السلاح والعنف العسكري حتى عملية السطو تتم باحتيال ونصب لكن بسلاح من دون رصاص.
«ملح هذا البحر» هو انحياز للحياة في فلسطين السليبة واستعادة رمزية لها عبر أعمال تدل على إمكانية استعادة الحق وتقول إن الحرية تنتزع انتزاعا بقوّة الحجة وبقوّة الانتماء إلى المكان. وعندما تلتقي ثريا بعماد أول مرة تعيد على مسامعه أسماء الحواري والشوارع والمقاهي والأسواق في «يافا» التي هرب منها جدّها عبر ذلك البحر المالح. وفي كلّ مرة كانت ثريا تجد نفسها في مواجهة جندي يعيد عليها الأسئلة نفسها: أنتِ من أين؟ كانت تقلب السؤال وتعيده عليه: أنتِ في الأصل من أين؟ وحين تقرر ثريا ورفاقها سرقة المصرف يقررون أيضا الذهاب للعيش في القدس من دون تصاريح.
الفيلم حافل بسخرية سوداء تقرأ في المستوى الاستعاري.. فتحت صورة الزعيم الراحل ياسر عرفات ورغم أوراق جدها الرسمية يقول لها المسئول في السلطة الفلسطينية إنها لا تستطيع الحصول على أوراق فلسطينية وإن الاتفاق الذي وقع مع الإسرائيليين يقضي بذلك. وكما تغيّرت هوية الأشخاص على أوراقهم في فلسطين فإن هوية وأسماء القرى التي هدم منها نحو 500 بعد النكبة تغيّرت وبينها قرية صديقها «الدوايمة» التي هدمت كليا ووقعت فيها مجزرة والتي يقرران المجيء اليها. والوصول اليها بعد بحر «يافا» وبعد عزلة 17 سنة في رام الله يعني الكثير للشاب عماد الذي يحلم بان يكون لهما ابن فلسطيني يحمل الهوية الأميركية كي يتمتع بحرية لم يحظَ بها والده. وهو حلم يحتضنه مكان مهجور في تلك القرية المهجورة إلا من حجارة بيوتها المهدّمة وقبورها التي تنطق بحقيقتها.
«ملح هذا البحر» نجح في كثير من رهاناته وإن ظل التمثيل فيه الحلقة الأضعف خصوصا حين تكون الشخصيات غير محترفة ما أدى الى هبوط الإيقاع خصوصأ في الجزء الثاني من الفيلم المليء بالتفاصيل الجميلة المرتبطة بالحياة في فلسطين.
الفلسطينية آن ماري جاسر وقعت هنا أوّل عمل روائي طويل لها؛ لتصبح أوّل امرأة فلسطينية تنجز فيلما روائيا طويلا. وسبق للمخرجة أن وقعت أفلاما قصيرة ووثائقية كان آخرها فيلم «كأننا عشرون مستحيل» الذي اجيز في الدورة الماضية من بيانالي السينما العربية في باريس.
العدد 2092 - الأربعاء 28 مايو 2008م الموافق 22 جمادى الأولى 1429هـ