الشعراء المتمكنون من لغتهم ونصوصهم يعدون بالملايين... ولكن المتمكنين من إنسانيتهم ويتعاملون بذوق رفيع وحساسية ملفتة مع محيطهم وبشر ذلك المحيط ربما لا يتجاوزون المئات. اذ ليس أمرا معجزا أن تكون شاعرا على قدر هائل من الإمكانات والموهبة، ولكن المعجزة - وفي هذا الزمن الذي اختلطت فيه الكثير من الأوراق وغابت فيه الكثير من الثوابت والمفاهيم - أن تجسد انسانيتك في كل موقع من مواقع الحياة، وتظل مصرا على إيلاء الإنسان أهميته البالغة انطلاقا من التكريم الإلهي له، وتعمل جاهدا في سبيل أن تكون موضوعتك الأولى، ضمن حرم الشعر وخارجه، الإنسان وكل ما يرتبط به.
مناسبة هذا الكلام، أنك لا تحتاج إلى مناسبة لإثارته، لأنك تصطدم بمضمونه واقعا وبشكل يومي، في الشارع، في الجمعيات على اختلاف اهتماماتها وتوجهاتها، في مواقع العمل، وحتى على مستوى العلاقات بين اثنين تعتقد أو ربما تتوهم أنها تمثل نموذجا يكاد يكون مفتقدا على مستوى العلاقة بين أخوين في الأسرة الواحدة.
أما الحديث على مستوى عدد لا بأس به من الشعراء، ووضوح انفصال مساحة كبيرة من القيمة الإنسانية التي من المفترض أن تكون ملتصقة بهم واقعا وسلوكا - انفصالها عنهم - فأمر يدعو إلى التأمل في مدى التناقض الكبير الذي يحمله كل واحد منهم. إذ نعلم يقينا أن القبض على القصيدة لا يتأتى باستدعاء أو تحضير يشبه تحضير الأرواح، بقدر ما هو حال من القبض على اللحظة الشعورية وفي درجاتها القصوى من جهة والمختزلة من جهة أخرى، القصوى من حيث إتيان الشاعر لحال من الرصد والحساسية والانفعال في جانبه المنتج والإيجابي، يعمد الشاعر الى صبه وتشكيله ضمن إطار القصيدة وفي حدود اشتراطاتها البنائية واللغوية (الوصفة الموروثة التي تحكم الشكل الإبداعي) بغض النظر عن طبيعة الغرض الشعري المراد الخروج به، والمختزلة، من حيث القدرة على إجمال تلك اللحظة الشعورية والرصد والحساسية والانفعال، إجمالها في أقل قدر من الكلام مع تحقيق جملة من المفاهيم والأفكار مقرونة بمتعة يوفرها عبر التزام بنظامية الشكل من سلامة اللغة والقافية والوزن... الخ.
أقول إذا استطاع الشاعر أن يحقق ويقبض على كل ذلك متأثرا بمشهد ما أو حال ما استوقفته، ما الذي يجعله ينفصل في كثير من الأوقات عن مثل تلك الدرجة العالية من الحساسية الجميلة والحضور اليقظ؟... بمعنى آخر لماذا يعيش بعض الشعراء حالا من التناقض المريب والمريع بين كونهم يحملون تلك الطاقة الهائلة في تحسس حالات البشر والناس وتوظيفها توظيفا رائعا وملفتا في عدد من نصوصهم الشعرية، في الوقت الذي هم فيه على استعداد للتحول إلى كائنات موهبتها الوحيدة الدمار والهدم واشاعة الخراب على مستوى العلاقات والمواقف... وكل شيء هو على تماس مع كل ما هو جميل؟ في موقف يدفعك للاعتقاد بأن مهنتهم ودورهم الرئيس في الحياة هو امتهان ما يجعل هذا الكوكب غير صالح للعيش عليه!
مثل ذلك الانفصال بين الطريق أو المقدمات المؤدية إلى القصيدة / النص، وبين السلوك الذي يبدر من عدد من الشعراء، يستدعي دراسة وتأملا ووقوفا جادا على ملابساته وأسبابه.
أول النص
أستلهمك فكره وميلاد وأعياد
أستلهمك لقيا بعد طول فرقا
العدد 274 - الجمعة 06 يونيو 2003م الموافق 05 ربيع الثاني 1424هـ