خلق انهيار الاتحاد السوفياتي والتحول الى اقتصاد السوق أزمة لم يسبق لها مثيل في عالم صناعة الأفلام الروسية، اذ ان الرقابة على الأفلام لم تنته تماما، لكن ما انتهى هو الموازنة الضخمة التي كانت الدولة تخصصها لانتاج الأفلام والخط العسكري الحازم المفروض والمطابق لتصورات الكرملين الايديولوجية المتغيرة دائما.
أما توزيع الأفلام فقد تبع الوضع الموجود في الدول الشيوعية، إذ ظلت الأفلام الأميركية لفترة طويلة منبوذة اجتماعيا لكنها اصبحت مسيطرة بحيث تشغل ما يقرب من 85 في المئة من أوقات العروض.
بعد انتعاش الانتاج في بداية التسعينات (إذ انتج في العام 91-1992 فقط 300 فيلم)، ثبت الرقم الى ما يقرب من 50 إلى 60 فيلما في العام الواحد، ولا يمكن القول إن الحكومة توقفت عن تمويل السينما الروسية ولكن هذا التمويل أصبح غير كاف مقارنة بكلفة الانتاج المرتفعة باستمرار.
وقد ازدهر انتاج الأفلام بشكل أولي بسبب خصخصة الانتاج السينمائي والسماح بالاستثمار في هذا المجال لأول مرة على الاطلاق، أو بسبب استغلال عصابات المافيا الروسية الناشئة انتاج الأفلام في عمليات غسيل الأموال، ولكن رجال الأعمال الروس الجدد توقفوا عن انتاج الأفلام مباشرة بعد ان طرحت حكومة غيدار في العام 1993 طرق قانونية جريئة للخصخصة والاستثمار.
اما بالنسبة إلى عصابات المافيا فقد لاحظوا بسرعة أن انتاج الأفلام لم يكن يستحق بذل اي جهود فحتى افلام الفيديو ذات الكلفة الباهظة لم تكن تضمن سوى أموال متواضعة.
في الوقت الذي كان فيه الحماس المصحوب بالحرية الفنية والتجارية يتحرك بشكل كبير في مجالات غير متوقعة، مفضلا الكمية على الجودة، تنبأ المخرجون الروس الأكثر خبرة بأن يكون خلاص السينما الروسية على يد المستثمرين الغربيين.
كانت البداية مشجعة، فالأفلام التي تعرض تفاصيل ضعيفة عن الحقيقة السوفياتية وتتخلل أسرار الروح الروسية، قوبلت بحماس حقيقي من قبل المشاهدين الغربيين، وبدا بأنه لا يوجد مدخل بصري (كما في فيلم الكسندر سوكوروف Days of Eclipse 1988) أو تراجع عن الواقعية الواضحة أو تكثيف للصراعات الاجتماعية، بصورة قوية تكفي لارضاء جوع المشاهدين للمزيد من المعلومات عن روسيا في فترة ما بعد الانفتاح الاقتصادي والسياسي. وقد كانت الأفلام الروسية مادة ساخنة في معظم المهرجانات العالمية، كما كانت الأفلام التي انتجت من دون تمويل اجنبي تجد موزعين غربيين مباشرة.
انتهى عهد الشعور بالنشاط والخفة بنهضة قاسية، وأصبح معظم المخرجين الروس مترددين بشكل متزايد في الخضوع لمنتجيهم ومطالبهم المستحيلة، كما بدا من المستحيل امكان تسويق الأعمال الهجينة التي تم انتاجها بأموال غربية وحساسية فنية روسية عالميا، إذ لم تكن موجودة، أما الذين انحنوا أمام الضغوط فلم يكرروا نجاحهم الذي حققوه في أفلامهم الأولى التي جعلتهم مشهورين. أما الأعمال اللاحقة التي قدمها كانيفسكي ولنغين وبودروف مثل Independent Life, Park, Russians Luna التي انتجت جميعها في العام 1992 فقد تم انتاجها بأفكار ومشاهد قديمة مأخوذة من أعمال سابقة.
استمر التعاون مع المنتجين الأجانب، وبدا المنتجون الفرنسيون وكأنهم يحملون انجذابا من نوع خاص لروسيا، وكانت الأفلام التي انتجوها تعكس عادة روح التعاون الخيرة (كما في فيلم Burnt by the Sun 1994 للمخرج نيكيتا ميخالكوف)، ولكن الانتاج المشترك فقد موقعه كالطريق الأقصر للشهرة والمجد، وبدأ يعامل كشراكة تجارية شاقة.
الأمر الجيد هو أن المنتجين الروس الجدد والمتكفلين والمستثمرين الخاصين بدوا أخيرا وكأنهم المنقذون، وهم بالتأكيد ليسوا من عصابات المافيا الذين يحملون أجندة سرية ولكن من محبي السينما الذين يملكون المال الكافي. من الناحية الأخرى وكما أشار نيكيتا ميخالكوف «فليس هناك أموال نظيفة في روسيا اليوم»، ولذلك فليس هناك خطأ اذا تم انفاق ثروة جديدة مكتسبة من أجل الحفاظ على بقاء الثقافة الوطنية.
الرواد المبتدعون الأوائل وعاطفة التدمير
ان اختفاء توجيهات الكرملين الايديولوجية سببت أزمة خطيرة في السينما الروسية الجديدة أخطر بكثير من توقف الموازنة الضخمة التي تقدمها الدولة، فقد استخدم الخط العام لخلق نظام في عالم الأفكار الشيوعي، ما أجبر منتجي الأفلام على اتخاذ أحد موقفين، اما الالتزام بهذا الخط والحصول على الجزرة أو التراجع الى الوراء وتلقي العصا، وهكذا ففي بداية التسعينات أصبح أمر الحصول على التمويل للأفلام أسهل نسبيا من التفكير في أفكار وقصص جديدة ما جعل الكثير من المخرجين المعروفين يفضلون الانتظار لعامين حتى تهدأ الأمور.
سوكوروف مثلا تذكر بدايات عمله وعاد الى انتاج الأفلام التوثيقية، اما المخرجون الأصغر والأقل خبرة فقد كانوا متحمسين بشكل طبيعي لاختبار حدود الحرية الجديدة المكتسبة قبل ان يتم وضع قيود ايديولوجية جديدة.
انشغل المخرجون الأوائل (1984-1989) بكسر هذه المحرمات الايديولوجية والسياسية والجنسية وغيرها، وكانت معظم أفلامهم قصيرة من 4 الى 20 دقيقة، تنتج بموازنة منخفضة وفي نوادي سينمائية.
الرواد المبتدعون في المرحلة الثانية
واستحواذ اعادة تقديم الأعمال في المرحلة الثانية للرواد المبتدعين التي وجدت في الفترة (1989-1995) بدأت بعد مرحلة الانفتاح السياسي والاقتصادي وقامت بهجمة مباشرة على السينما، استهدفت رموز الدكتاتورية والوضع البطريركي الراهن في الفن والمجتمع. وتم قيادة هذه الهجمة من قبل نقابة نقاد الأفلام الروس الذي لعبوا دورا مهما في السينما الروسية الجديدة عن طريق التشجيع وكتابة النصوص وتقديم الاستشارات واخراج بعض الأفلام التجريبية.
وقد بدأت هذه الحملة بعرض الأعمال التي تمثل أثار أدبية وموسيقية من الأفلام الكلاسيكية في مرحلة الاتحاد السوفياتي.
المخرجون الصغار كانوا يتخلصون من خرافات السينما السوفياتية الكلاسيكية من خلال التجمعات الحرة. هذه الأفلام لم تكن تهدف للتسلية ولكن لتخليص السينما الروسية الجديدة من مخاوفها وعقدها، لكن التهكم المفرط وعدم احترام المقدسات الموجود في هذه الأفلام كانت أمورا لا يشعر به المشاهدون. الفيلم محل السؤال هوVlery Tchkalov (1941) للمخرج ميخائيل كالاتوزوف وهو فيلم لترويج الشيوعية وأحد الأفلام المفضلة لستالين وهناك أفلام أخرى كثيرة مثل Scorpion's Gardens (1991) الذي فضح آلية صنع الخرافات الاستبدادية وقد انتج باعادة تحرير عدد من أفلام الخمسينات. ثم جاءت الأفلام التالية التي كانت أكثر شمولا جغرافيا وثقافيا والتي ركزت على الاتصال بين الثقافات.
الصور السينمائية الجديدة والروس الجدد
جاءت افلام فترة التسعينات لتقدم شخصيات جديدة لأبطال الثورة البربرية الجديدة ذوي الأخلاق الشبيهة بأخلاق رعاة البقر (الكاوبويز)، المبرئين من كل خطأ والذين تقدمهم الأفلام على أنهم مستعيدي العدالة الاجتماعية والمحقين في كل ما يقومون به.
ومن المخرجين الذين تبنوا تقديم هذه الصورة ديخوفيشني الذي صورهم وكأنهم شخصيات مأسوية وضحايا للظروف غير المتوقعة، أو ييفستيجنيف صاحب المبدأ الرومانسي الذي قدمهم كفرسان يفرضون مبادئهم القاسية على غابة صعبة المراس.
أنواع الأفلام الكلاسيكية والفقراء الجدد في روسيا
فتحت مجموعة كبيرة من الأفلام الروسية نوافذ واسعة على طبقة الفقراء الجدد في روسيا التي يعتبر ظهورها دليلا اجتماعيا قويا على حال الاحباط وظهور الاساطير الجديدة في حياة الناس العاديين في روسيا. وتظهر هذه الأفلام في صورة أفلام كوميدية هزلية (Evertyhing Will be Ok 1995 للمخرج ديميتري استراخان الذي يناقش اكثر قضايا المجتمع الروسي ايلاما كالاسراف في شرب الكحوليات وانتشار جرائم العنف والبطالة والدعارة وغيرها) أو كوميديا رومانسية (Moscow Vacation 1995 للمخرج الا سوريكوفا) أو ميللودراما (American Daughter 1995 للمخرجة كارين شاكنازاروف).
وجميع هذه الأفلام تقدم قصص تكشف عمق اليأس الاجتماعي لدى طبقة الفقراء الروس وتناقش مشكلات المجتمع الروسي ثم تقدم اليها حلولا هي أشبه بالمعاجز. اما أفلام الميللودراما فتأتي دائما لتلمس رغبات النساء وحاجاتهن غير المشبعة ولكن فيلم American Daughter يؤخذ على انه محاولة وان لم تكن مقنعة فنيا واجتماعيا، لاستعادة اعتداد الرجال الروس المتضاءل بأنفسهم الذين يشعرون باحباط بسبب عدم قدرتهم على ان ينتموا الى طبقة «الروس الجدد» والذين يتخذون من فشل بلادهم دليلا على فشلهم.
كانت السينما السوفياتية في الثلاثينات موجهة من قبل الرجال، فالأفلام التي تناقش قضايا النساء كانت مقدمة من وجهة نظر مخرجين رجال.
خلال فترة السبعينات والثمانينات فقط ظهرت مخرجات نساء قدمن الواقع السوفياتي من خلال حدقة الانثى وادراكها، ولهذا السبب لم تعاني أفلام النساء من تحول كبير في السينما الروسية في فترة ما بعد الاتحاد السوفياتي فالمرأة في هذه الأفلام هي التي تساعد الرجل وتقف الى جانبه وتحبه وهي البسيطة المطيعة والانثى التقليدية.
أما القفزة التي حدثت للأفلام الروسية فقد أدت الى وقوع أفلام الميللودراما الرخيصة والأفلام الكوميدية العاطفية فريسة لأساطير الهروب من الواقع كافلام السندريللا المرأة والرجل التي تتطابق في الوقع مع القفزة التي حدثت لروسيا من قوة عظمى الى دولة فقيرة من دول العالم الثالث.
وفي مقابل هذه الخلفية القاتمة هناك اغراء للنظر الى الالهامات الاجتماعية والرسائل المعقدة والروح الروسية الغامضة المنتشرة عبر الطبقات، حتى عبر المغامرات الظريفة المرحة كما في فيلم Pecularities of Russian Hunt (1995) للمخرج روغ زكون
العدد 331 - السبت 02 أغسطس 2003م الموافق 04 جمادى الآخرة 1424هـ