العدد 332 - الأحد 03 أغسطس 2003م الموافق 05 جمادى الآخرة 1424هـ

صانعو القرار الأميركي يسترشدون بمختلف أنواع «اللوبي»

مؤسسات الفكر والرأي وسياسة الولايات المتحدة الخارجية:

إن دور مؤسسات الفكر والرأي، من بين غيره من المؤثرات الكثيرة في صوغ سياسة الولايات المتحدة الخارجية، هو أحد أكثر تلك الأدوار أهمية وأقلها فهما وتقديرا. فقد قامت هذه المؤسسات التي هي بمثابة مراكز أبحاث سياسية مستقلة، والتي تشكل ظاهرة أميركية مميزة، بصوغ التعاطي الأميركي مع العالم لفترة تقارب مئة عام. ولكن كون مؤسسات الفكر والرأي تقوم بمعظم مهماتها بمعزل عن أضواء وسائل الإعلام يجعلها تحظى باهتمام يقل عما تحظى به المنابع الأخرى للسياسة الأميركية - كالتنافس بين مجموعات المصالح، والمناورات بين الأحزاب السياسية، والتنافس بين فروع الحكومة المختلفة.

وعلى رغم هذا الابتعاد النسبي عن الأضواء، فإن مؤسسات الفكر والرأي تؤثر على صانعي السياسة الخارجية الأميركية بخمس طرق مختلفة هي: توليد أفكار وخيارات مبتكرة في السياسة، وتأمين مجموعة جاهزة من الاختصاصيين للعمل في الحكومة، وتوفير مكان للنقاش على مستوى رفيع، وتثقيف مواطني الولايات المتحدة عن العالم، وإضافة وسيلة مكملة للجهود الرسمية للتوسط وحل النزاعات.

نشأة مؤسسات

الفكر والرأي وتطورها

إن مؤسسات الفكر والرأي مؤسسات مستقلة تم إنشاؤها بهدف إجراء الأبحاث وإنتاج معارف مستقلة متصلة بالسياسة. وهي تسدّ فراغا في غاية الأهمية بين العالم الأكاديمي، من جهة، وبين عالم الحكم، من جهة ثانية. ذلك أن دافع الأبحاث في الجامعات يكون، في أحيان كثيرة، النقاشات النظرية المنهجية والغامضة التي لا تمتّ إلا بصلة بعيدة للمعضلات السياسية الحقيقية. أما في الحكومات فيجد الرسميون الغارقون في مطالب صنع السياسة اليومية الملموسة، أنفسهم عاجزين، بسبب كثرة مشاغلهم، عن الابتعاد قليلا عن الشئون اليومية لإعادة النظر في المسار الأوسع لسياسة الولايات المتحدة. من هنا، كانت أولى مساهمات مؤسسات الفكر والرأي المساعدة على سد الفجوة بين عالمي الأفكار والعمل.

وقد حصل بروز وارتقاء مؤسسات الفكر والرأي العصرية بصورة متوازية مع ارتقاء الولايات المتحدة إلى سدّة زعامة العالم. فقد انبثقت هذه المؤسسات أول ما انبثقت قبل قرن من الزمن، خلال الحقبة التقدمية، كجزء من حركة تستهدف الاحتراف في العمل الحكومي. وكانت رسالتها المعلنة، في معظمها، غير سياسية: دفع عجلة المصلحة العامة عن طريق تزويد الرسميين الحكوميين بالنصائح السياسية النزيهة غير المتحيزة. وتشمل الأمثلة الأولى لهذه المؤسسات معهد البحوث الحكومي (1916)، وهو ما أصبح لاحقا مؤسسة بروكنغز (1927). وكانت مؤسسة كارنيغي للسلام العالمي التي تأسست سنة 1910 أول مركز أبحاث مُكرس فقط للسياسة الخارجية، وقد أُنشئت لغرض التحقيق في أسباب الحروب وتشجيع الحلول السلمية للنزاعات. وقد أصبحت هذه المهام مُلحّة مع اندلاع الحرب العالمية الأولى التي ولدّت نقاشا حاميا عن الدور العالمي المناسب للولايات المتحدة. وخلال شتاء 1917 - 1918، جمع العقيد إدوارد هاوس، وكان مستشارا للرئيس وودرو ويلسون، بشكل متكتم متحفظ، بحاثة بارزين لأجل استكشاف خيارات السلام لما بعد الحرب. وقام هذا الفريق، الذي عُرف بمجموعة «التحقيق»، بتقديم النصح للوفد الأميركي إلى مؤتمر السلام في باريس. وما لبث أن انضم، سنة 1921، إلى مصرفيين ومحامين وأكاديميين بارزين في نيويورك، لتشكيل «مجلس العلاقات الخارجية». وساعد الجيل الأول من مؤسسات الفكر والرأي في إنشاء واستدامة مجموعات محلية من المواطنين المتنورين المؤيدة للتعاطي العالمي، وحافظ في نفس الوقت على إبقاء فكرة «الدولية» حية خلال السنوات التي انقضت بين رفض الولايات المتحدة الاعتراف بعصبة الأمم واندلاع الحرب العالمية الثانية.

ثم برزت موجة ثانية من مؤسسات الفكر والرأي بعد سنة 1945 عندما أخذت الولايات المتحدة على عاتقها مهام دولة عظمى وأصبحت (مع اندلاع الحرب الباردة) المدافعة عن العالم الحر. وقد تلقى العديد من تلك المؤسسات دعما مباشرا من الحكومة الأميركية التي خصّصت موارد هائلة للعلماء والبحاثة العاملين في مجال الدفاع. وأطلقت مؤسسة راند كوربوريشن التي أنشئت في الأساس كمؤسسة مستقلة لا تبغي الربح بتمويل من سلاح الطيران سنة 1948، دراسات رائدة في تحليل الأنظمة ونظرية وضع الخطط الحربية لمواجهة جميع الظروف المحتملة والمساومة الاستراتيجية، ما زالت تؤثر في صياغة طريقة تحليل سياسة الدفاع والردع بعد مرور عقود على تطويرها.

وبرزت خلال العقود الثلاثة الأخيرة، موجة ثالثة من مؤسسات الفكر والرأي تركز على تأييد آراء معينة ومناصرتها بنفس قدر تركيزها على الأبحاث، مستهدفة إنتاج وتقديم مشورة سياسية في الوقت المناسب يمكنها التنافس في سوق الأفكار المزدحمة، والتأثير في القرارات السياسية. وتشكل مؤسسة هيريتيج المحافظة التي أنشئت في العام 1973 النموذج الأصلي لمؤسسات الفكر والرأي هذه الداعية لأفكار معينة. كما يلعب معهد الدراسات السياسية الليبرالي دورا مشابها.

وبحلول القرن الواحد والعشرين، أصبحت هناك أكثر من 1200 مؤسسة للفكر والرأي موزعة على كامل الساحة السياسية الأميركية. وهي تشكل مجموعة غير متجانسة من اذ اتساع نطاق الموضوعات والتمويل والتفويض والموقع. فبعض هذه المؤسسات، مثل معهد الاقتصاد الدولي، ومؤسسة الحوار بين الدول الأميركية، أو معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى يركزّ على مجالات وظيفية محددة أو مناطق معينة. في حين تغطي مؤسسات أخرى، مثل مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، السياسة الخارجية بصورة عامة. ولدى القليل من مؤسسات الفكر والرأي، مثل بروكنغز، منح وقفية ضخمة فلا تقبل بالتالي إلا القليل من التمويل الرسمي أو أنها لا تقبل شيئا منه؛ في حين تحصل مؤسسات أخرى مثل راند على معظم إيراداتها من عقود للقيام بأعمال لزبائن في الحكومة وفي القطاع الخاص؛ بينما تعتمد قلة منها، مثل معهد السلام الأميركي بصورة شبه كاملة على التمويل الحكومي. وتقوم مؤسسات الفكر والرأي، في بعض الحالات، بدور إضافي كمنظمات غير حكومية ناشطة في قضية معينة. فمجموعات الأزمات الدولية، مثلا، تنشر شبكة من المحلّلين في الأماكن الساخنة حول العالم لرصد الأوضاع السياسية المتفجّرة، وتضع توصيات مبتكرة ومستقلة من أجل إحداث ضغط عالمي لإيجاد حل سلمي لها.

مصنع الأفكار

تقدم مؤسسات الفكر والرأي الحالية، من منظور صانعي السياسة الأميركية، خمس فوائد رئيسية. ويكمن تأثيرها الأكبر (كما يتناسب مع اسمها) في توليد «تفكير جديد» يُبدّل الطريقة التي ينظر بها صانعو السياسة الأميركية إلى العالم ويستجيبون له. ومن الممكن أن يؤدي التبصر الجديد إلى تغيير تصور المصالح القومية الأميركية وفهمها، والتأثير في ترتيب الأولويات، وتوفير خرائط طرق للعمل، وحشد التحالفات السياسية والبيروقراطية، وصوغ شكل قيام مؤسسات مستديمة. غير أنه ليس من السهل لفت انتباه صانعي السياسة المنشغلين والغارقين في المعلومات أصلا. لذلك تحتاج مؤسسات الفكر والرأي لكي تنجح في ذلك، إلى استغلال قنوات متعددة وإلى استراتيجيات تسويق، نشر مقالات وكتب وأبحاث ودراسات بين الفينة والأخرى؛ والظهور بصورة منتظمة على شاشات التلفزيون وفي مقالات الرأي على صفحات الجرائد وفي مقابلات صحفية؛ وإصدار نشرات موجزة تسهل قراءتها، وبيانات حقائق، وصفحات على شبكة الإنترنت. وتوفر جلسات الاستماع أمام الكونغرس فرصة أخرى للتأثير في الخيارات السياسية. فالبحاثة المستقلون الذين لا تقيدهم الوظائف الحكومية يستطيعون إعطاء تقييم صريح للتحديات العالمية الملحة ولنوعية الردود الحكومية.

تُوفّر بعض المنعطفات التاريخية الحاسمة فرصا استثنائية لإدخال تفكير جديد إلى حقل السياسة الخارجية. وقد أمنت الحرب العالمية الثانية واحدة من هذه الفرص. فبعد اندلاع الحرب، أطلق مجلس العلاقات الخارجية مشروع دراسات ضخما عن الحرب والسلم لاستكشاف الأسس المرغوب فيها لسلام ما بعد الحرب. وقد أنتج المشاركون في هذه الجهود، في نهاية الأمر، 682 مذكرة قدموها إلى وزارة الخارجية عن موضوعات متنوعة، بدءا من احتلال ألمانيا إلى إنشاء الأمم المتحدة. وبعد مرور سنتين على نهاية الحرب، نشرت مجلة فورين أفيرز التي تعكس هوية وأهداف المجلس مقالا غير موقّع بعنوان «أسباب التصرفات السوفياتية». وقد ساعد المقال، الذي كتبه في الواقع الدبلوماسي الأميركي جورج كينان، في إقامة الأسس الفكرية لسياسة الاحتواء التي اتبّعتها الولايات المتحدة خلال العقود الأربعة التالية. ثم نشرت مجلة فورين أفيرز، سنة 1993، مقالا للعالم السياسي في جامعة هارفرد، صامويل هنتنغتون بعنوان «صدام الحضارات»، هو بمثابة مساهمة اشتملت على بذور تطور قابلة للنمو في النقاش الدائر عن السياسة الخارجية الأميركية في حقبة ما بعد الحرب الباردة. وقد أسهمت دراسات قام بها مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية ومعهدا هيريتج وبروكنغز، منذ الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، أسهمت جميعا في النقاش الدائر داخل الحكومة عن الاستراتيجيات المناسبة والمنظمات اللازمة لمواجهة التهديد الإرهابي في الداخل والخارج.

وتشكل حملات الانتخابات الرئاسية وفترات انتقال الحكم مناسبات مثالية لرسم برنامج عمل للسياسة الخارجية. ويشرح ذلك مارتن أندرسون، من مؤسسة هوفر، قائلا «في أوقات كهذه بالذات يطلب المرشحون للرئاسة المشورة من عدد كبير من المثقفين لأجل تحديد المواقف السياسية عن حشد من القضايا السياسية الداخلية والخارجية. ويتبادل المرشحون للرئاسة الأفكار مع الخبراء السياسيين ويختبرونها خلال مسار الحملات الرئاسية. إن الأمر أشبه ما يكون باختبار تسويق لاستراتيجية قومية.» وقد كان أكثر الأمثلة شهرة على هذا ما حدث بعد انتخابات سنة 1980 عندما تبنّت حكومة (رونالد) ريغان مطبوعة مؤسسة هيريتيج وعنوانها «تفويض للتغيير» كبرنامج عمل للحكم. وهناك حالة ثانية أكثر حداثة تمثلت بصدور تقرير سنة

العدد 332 - الأحد 03 أغسطس 2003م الموافق 05 جمادى الآخرة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً