حينما نتطرق إلى مجالات «الجهاد الأكبر»، فإننا قد نفاجأ بقائمة طويلة من الأعمال، منها ما يحسن أداؤه، ومنها ما يلزم اجتنابه؛ والمفاجأة الثانية هي أننا نجد أن مجالات «الجهاد-الأكبر» تحتاج إلى مجاهيد عميقة، طويلة المدى، تتطلب الجزيل من الصبر والمصابرة والمرابطة. كما اننا نجدها كلها متميزة بالبناء لا الهدم، والتعمير لا التدمير، والتدريب لا الترهيب، وبتصبب العرق لا سفك الدماء، وبالمحبة لا البغضاء...
فلنتناول، مثلا، الاثنتي عشرة فكرة التالية من مجالات «الجهاد الأكبر»:-
البدء بمجاهدة النفس
ولعلنا نقدِّم هذا الجانب على ما سواه، ليس فقط لأنه هو الأوْلى والأقرب، ولكن لأنه، أيضا الأصعب! فكما أننا نجد أن من الصعب أن «نمتنع عن التعاطي مع ما يتناغم مع رغباتنا وحاجاتنا المغروسة والمغروزة؛ أو أن يصعب علينا تحقيق تخفيض ملموس في مستوى سمنة أجسامنا، ونجد أننا نستصعب القيام بالتمارين الرياضية المنتظمة - ناهيك بالجمع بينها - وأيضا تخفيض عدد السعرات الحرارية في كمية ونوعية غذائنا. أو اننا عادة ما نجد صعوبة في الجمع بين الحاجة إلى تحقيق بعض الاستجمام بعد العودة إلى البيت، ثم - أيضا - تولي البعض منا المهمات والمسئوليات المنزلية العائلية الضرورية اليومية؛ أما إذا أضفنا القيام بتفقد أحوال أفراد العائلة، والقيام بشيء من الإشراف على واجبات العيال المدرسية، وربما أيضا القيام بتهيئة بعض التحضيرات اللازمة لعمل الفرد في الغد، كقيام بعض المدرسين بتصحيح دفاتر تلاميذهم... إلخ، فإن الجمع بين هذا، وهذي وذاك، هو أمر لا يستهان به، وفيه جهد وجهاد يومي كبير.
فهل لي هنا أن أقول:-
جاهدتَ نفسَكَ، والجهادُ فضيلةٌ
هـذا جهـادُ النفس خـيرُ جـهاد!
و مما يحكى في تراثنا أن أم الحسنين (ع) كانت تقوم بكامل رعاية طفليها، وفي الوقت نفسه تدير رحاة الطحين لتحضير غذاء أسرتها، بينما أيضا تتعبدُ مُسَبحة خاشعة. وفي أيامنا نسمع عن بعض مشاهير عصرنا، مثل «شيري بلير»، فهي «محامية» مرموقة لها مكتبها الحقوقي المستقل، الذي يفوق دخلُه دخلَ زوجها رئيس وزراء بريطانيا؛ وهي «أم» لها أربعة اطفال (وكادت تأتي بخامس)، وتشتغل «متطوعة» في جمعية خيرية، وتؤدي دورها «كزوجة»؛ ولها «هوايةٌ» أو هوايتان تضيفهما إلى كل ما سبق! فهذا المثال، وأمثالُه جمة، يحتاج طبعا إلى الكثير من التنظيم المُجهد، وإلى الجهد والمجاهدة!
العمل التطوعي
لخدمة الناس كأفراد، ولرعاية البيئة التي فيها يعيشون ويسعدون كجماعات، فإن «الخدمة العامة» فرض عين؛ ولفظتا «العمل التطوعي» هما كلمتان قد تبدوان خفيفتين، وأحيانا شبه مبهمتين. ولكن من لم تهمه بيئة الناس ومصالح الناس، فليس منهم! ومن المنتشر الآن في انحاء العالم: «الجمعيات التعاونية»، وكذلك «المؤسسات التي لا تستهدف الربح»، وما يسمى بـ «جماعات العمل المدني»، ومتطوعو «الأطباء بلا حدود»، وجماعات حماية البيئة، وجمعيات الرأفة بالحيوان وجمعيات «رعاية» الإنسان!
الخدمة شبه العسكرية
و هذه يمكن التركيز عليها عند نهاية المرحلة الدراسية الثانوية، هب لسنة، أو لتسعة شهور يتبعها معسكر صيفي، يتلقى فيها المتدرب أو المتدربة نوعا أو أكثر من أنواع التدريبات، بما فيها اليدوية المهنية، تتولى تنسيقها المؤسسة العامة لرعاية الشباب بالتعاون مع الجهات المساهمةكافة، العسكرية وغير العسكرية، الحكومية والأهلية، لتحقيق عدد من التدريبات «المهنية» اليدوية، ومهارات «الإشراف الإجتماعي»، وكذلك المجالات الإسعافية والرياضية. والغرض هنا هو طبعا: النهوض عن التواني والكسل، وإلى الانخراط في البرامج والتدريبات التي تدفع الشباب إلى «الأداء»، وإلى عدم «التواكل»، فلا يبقى المواطن السوي وكأنه أشلٌ مُقعدٌ، ينتظرُ أداء كل شيء من قِبل الغير!
مقاومة الترفع والتأنُّف عن العمل بِاليدْ
فمن أمثلة البرامج التي يحسن بالشباب والشابات ألاّ يتحرج الواحد منهم والواحدة منهن عن الإنخراط فيها: برامج «الديكور» والتجميل والأزياء، والصباغة والحدادة والنجارة، والصياغة، والنسيج، وأعمال الصيانة بأنواعها، وفي كل هذا وذاك علينا أن نجد ونجتهد في الإتقان، ففيه مجال عميق للمجاهدة والمجالدة.
طلب العلم والوعي والتوعية
في الوعي والتوعية حصانةٌ ضد المزالق وضد العوَز، وفيهما الترفع عن نفاق القوَى المسيطرة والتذلل لها؛ فمن هذا «الجهاد - الأكبر»: مقاومة النفاق والتملق، على رغم صعوبة تحقيق هذه المقاومة. ومن أهم عناصر الوعي ألا ينشأ شبابنا إمَّعين ولا شاباتنا إمَّعات، وألاَّ نغفل عن المحاسبية في الخدمة المدنية، وألاّ نتوانى عن قول الحق والصدح به. أما عن طلب العلم، والتفاني بجد واجتهاد في التحصيل العلمي والنماء الثقافي والوقوف على علوم الغير، فهي ليست فقط «فريضة» على كل شخص و(شخصة) وليس هناك حدود جغرافية لمواقعه ولو بَعُد بُعْدَ الصين عن الحجاز؛ بل هو أيضا «جهاد»! وكل طالب للعلم يغترب ساعيا للتحصيل العلمي هو «مجاهد في سبيل الله حتى يرجع» إلى أهله!
المجالدة في البحث الهادف وبالقراءة الفاحصة المتدبرة (و المراجعة المتعمقة المتأنية لما ألفيناه من أفكار أسلافنا، وتراجمهم، وسيرهم، وتفسيراتهم). القليل القليل منا - و لا استثني نفسي - من يضغط على نفسه فيقرأ حتى الكتب التي طبقت سمعتها الآفاق؛ بل تجده يكتفي بما يوجز له في فقرات وصفحات هنا وهناك؛ أو أن يقرأ عنها - إذا ومتى قرأ - عن تلك الكتب، في صحيفة هنا أو مجلة هناك. وإذا سُمح لي هنا أن أتساءل: كم من خريجي (أو حتى متخصصي ومسئولي كليات اللغة العربية وكليات الدراسات الدينية). قرأ ودرس فعلا ضمن «قراءاته الخارجية» سيرة إبن هشام، الطبري، ابن الأثير، ابن كثير، أو البيهقي او الحلبي، او من المعاصرين كالدكتور/أحمد شلبي؟
و من أسباب ذكر موضوع «القراءة والتثقف» ضمن مجالات «المجاهدة» والمجالدة، هو انتشار بث وتبادل الوسائل المجانية للتسلية الإعلامية بأشكالها السمعبصرية المتعددة، وطغيان تلك الوسائل الدافق على توفر فرص الذهاب إلى المكتبات العامة التي هي على وشك أن تنضم إلى فئة المتاحف او تتحول إلى «خبر كانَ!» فأصبح من الصعب على الواحد والواحدة منا إكمال قراءة كتاب أو حتى دورية أو حتى مجلة، وربما حتى الصحيفة اليومية (على رغم أن بعضنا - لسبب ما - يقتني ربما 3 أو 4 مطبوعات صحافية، أو أكثر، يوميا!)
مجاهدة تقمصنا لباس الاستبداد
من الأهمية بمكان مقاومة مسايرة المستبدين القابعين بيننا على مختلف المستويات، من ناحية، ومقاومة جُبن المستبَد بهم من ناحية أخرى؛ فنزعة الاستبداد مهيئة لكل -وعند كل واحد منا؛ فإذا ما ترك المرء لنفسه هواها وجد نفسه مستبدا: بزوجه، وأولاده، وأقاربه، وحيِّه، بل وبكل وطنه ومجتمعه؛... وأقلها، أن تجد عند الواحد منا ميلا لجعل الآخرين تابعين لأوامره أو لوجهة نظره. وفي مثل هذا يقول توماس ين: «على كل من يسعى منا نحو صيانة حريته، أن يحمي اولا غيره - حتى لو كان من أعدائه - من الوقوع في رذيلة الاستبداد؛ أما إذا تخلى عن هذا الواجب، فإن دائرة السوْء ستحوق به هو،... ولو بعد حين!» فالسلطة مَفسدةٌ/ مُفسدة: والسلطةُ المطْلقة، مَفسدةٌ في مَفسدة!
و يقابل ذلك، المجاهدة بالسعي إلى تحقيق الديمقراطية
إن طريق الديموقراطية، مثله مثل «الحرية» هو طريق ليس مفروشا بالزهور، بل غالبا ما يأتي غير مرصوف او ممهد أصلا؛ ويتطلب الكثير الكثير من الجهد والإجتهاد والمجاهدة.
مجاهدة النفس لتحمل الرأي الآخر
إن من غير اليسير تنازل الفرد منا عن موقفه، أو التفريط برأيه الذي غالبا ما يكون معتدا به، إلاّ أن الحاجة إلى التعايش في سلام وبشيء من الوئام مع بقية الأنام، تتطلب منا المجالدة لتحمل وجهات نظر الآخرين؛ وهذا قد يتطلب تدريبات محددة بالانخراط في برامج للمناظرات، والمحاورات، وفي فنون الخطابة والإلقاء الأدبي المتأدب. فإن البعض منا في موقف من المواقف قد «يركب رأسه»، فيصر على نصف الكأس الفارغ، وينسى أو يتناسى النصف الممتلئ (أو العكس)؛ وبعضنا قد يصل به مستوى التعصب لرأيه بحيث تنطبق عليه طُرفة «عنزة ولو طارت!». فعلينا مقاومة إغراءات «التعصب»، و«التنطع» وأنواع «التزمت»، و«التشدد» التي لا تؤدي إلاّ إلى ضياع «الأول وبالتالي»، إلى اختلال الميزان.
مقاومة الموبقات
و هذا نوع آخر من أنواع «الجهاد الأكبر». وهاتان الكلمتان أيضا خفيفتان على اللسان، صعبتان في التحقيق، إلاّ بالمجاهدة والمجالدة. فيحسن أن نجاهد انفسنا، وأن نستعين بل ونستنجد بالموارد المتاحة كافة لتمكيننا ولمساعدتنا على مجاهدة: تناول المخدر من كل نوع، بما يشمل التبغ (و ما به من النيكوتين في تعاطي الساير والسيار و«الشيشة»)؛ وفي تناول المشروبات الكحولية (فالكحول «مخدر»). كما ان علينا أن نلاحظ أمورا وقِيما أخرى، فنجاهد بعدم غش الناس والأفراد والمؤسسات؛ وبالابتعاد عن رذائل الأعمال والموبقات عموما.
الصبر والمصابرة الشخصية والفكرية
غني عن البيان والتبيين تكرار ان في الصبر مجاهدة ومجالدة؛ وإن من الصبر والمصابرة تحملنا غيرنا من أصحاب الفكر المغاير لفكرنا، أو من متبعي مذهب اقتصادي أو فلسفي أو ديني غير مذهب الواحد منا؛ كما وإن من أوجه الصبر، وهي كثيرة، الصبر على إتقان الأداء في العمل أيا كان، وفي كل مكان؛ وكذلك الصبر على الصيام عن فاحش الكلام، والصبر عن إغراءات البِطنة، وعن تناول ما يتعدى حاجاتنا من الشراب والطعام.
المجاهدة لتحقيق مبدأ وممارسات «الإنصاف»
من الصعوبة بمكان أن نعطي كل ذي حق حقه، أو أن نقر بأن الناس شركاء في مناكب الحياة، وبضرورة التوزيع «المنصف» (و لن أقول «المتساوي») للخيرات والموارد، وكذلك التكافؤ في فرص العمل وفي المنافسة والترقي، وغيرها، فهي أمور تحتاج إلى كثير من الجهد والمجاهدة، يوما بعد يوم. في مجالات الحياة المختلفة.
فإنه من السهل أن نقوم بمجرد «
العدد 399 - الخميس 09 أكتوبر 2003م الموافق 12 شعبان 1424هـ