العدد 405 - الأربعاء 15 أكتوبر 2003م الموافق 18 شعبان 1424هـ

المسلمون الإسبان: تشييد مسجد غرناطة... إحياء لحضارة الثمانية قرون

بعد خمسة قرون من طرد المورسكيين من الأندلس

بعد أن تصل بك سيارة الأجرة إلى الساحة الرئيسية المقابلة لبوابة «حي البازيين العربي» حتى تشعر وكأنك ودعت الحياة الأوروبية المعاصرة الممثلة في الجزء الحديث من مدينة غرناطة، وبت على عتبات حياة الشرق الساحرة، وأول ما يقابلك منها سلسلة من المطاعم الشرقية، المغربية والشامية تحديدا، بالإضافة إلى عدد من «البزارات» المتخصصة في المتاجرة بالمنسوجات والمصنوعات المغربية التقليدية. ويكفي للزائر أن يسأل أول من يقابله عن «مسجد غرناطة الجامع» الذي دشن الصيف الماضي حتى يوجهك إلى الطريق السالك نحوه.

بعد سلسلة من الطرق والمسالك الضيقة لـ «حي البازيين» والتي تدفع المرء إلى الاعتقاد بأنه في أحد الحواري القديمة بمدن فاس أوتطوان أوالقيروان أو حتى دمشق تصل مباشرة إلى الربوة المقابلة لمجمع «قصر الحمراء» العربي الشهير، وفوق هذه الربوة قرر المسلمون الجدد من الاسبان إنشاء أول بناء يرمز إلى ديانتهم الجديدة وللإعلان عن وجودهم.

فبعد أكثر من قرن من غروب الشمس العربية والإسلامية عن هذه الأرض، إثر سقوط مدينة غرناطة وإمارتها «آل الأحمر» آخر القلاع الإسلامية بالأندلس بعد سطوع استمر أكثر من ثمانية قرون اختار «عبدالعليم مولينيرو» وأصحابه تأسيس مسجد يكون رمزا لعودة الدين، الذي معه عرفت شبه الجزيرة الإيبيرية أزهى فترات تاريخها، ويذكر فيه اسم الله وتمارس فيه الطقوس الإسلامية وتدرس الأبجديات الأولى للدين من سور قرآنية وعبادات.

المسجد الذي احتل مساحة تقدر بـ 1000 متر تتصدره حديقة بها شجيرات، ترصعها عدة نافورات صغيرة، أقيم في مواجهة قصر الحمراء وبين الربوتين تربع «حي البازيين» والذي بدأ في استرجاع إشراقته بعد ازدياد موجة تملك العرب من المغاربة للبيوت فيه، فيما فضل إخوانهم من الشرق العربي خصوصا من الخليج تملك الشقق والاستراحات على شواطئ ماربيا على البحر الأبيض المتوسط.

عند مدخل المسجد الذي يبدو ومن خلال مظهره الخارجي، أنه روعي في بنائه العمارة المغربية/الأندلسية القديمة، استقبلنا ثلاثة رجال من ذوي السحنات الأوروبية البيضاء، إلا أن الدم العربي بدا واضحا في ملامحهم على غرار معظم الأندلسيين من سكنة الجنوب الإسباني، نتيجة لثمانية قرون من الوجود وما عرف خلاله من تزاوج وتلاقح. قدمت نفسي لهم سائلا عن إمام المسجد عبدالحسيب كاستينييرا Castineira، فأخبروني أنه سيتأخر نتيجة لارتباطاته، فكانت فرصة للتحاور معهم بشأن المسجد وواقع حياتهم اليومية كمسلمين.

كان الجالسون وهم «عبدالعليم مولينيرو -Moliniero » والذي كان يدعى قبل إسلامه إنريكيه مولينيرو، ويوسف «خوسيه سابقا»'، ومؤذن المسجد عبدالله، والذين يعتبرون من الرعيل الأول الملتحق بالإسلام في إسبانيا الحديثة يتبادلون أطراف الحديث في انتظار رفع آذان العشاء.

عبدالعليم الذي اتضح أنه من مؤسسي الجماعة الإسلامية في إسبانيا وخوسيه الذي يعمل كموثق وصحافي في التلفزيون الإسباني قاما مباشرة بعد التعرف بي برفع الكلفة بيننا وبدآ في التحدث معي بالعربية الفصحى «المكسرة» المطعمة بألفاظ من اللهجة المغربية، وعند عجزهم عن متابعة الحديث كانوا يلجأون إلى التحدث بلغتهم الأم الإسبانية.

مولينيرو قال وقبل أن نوجه إليه أي سؤال، انه وصحبه يعيشون اليوم أحلى لحظات حياتهم ببناء مسجد لهم في غرناطة، والتي لا يضاهيها إلا السعادة التي غمرتهم عند إسلامهم منتصف عقد السبعينات، معتبرا أن إقامة هذا الصرح الإسلامي جاء بعد سلسلة من التضحيات استمرت سنة.

أما يوسف (خوسيه سابقا) فطلب مني أن أكتب ما أراه وأسمعه من دون زيادة ونقصان، فالمسجد صغير الحجم نسبيا إذا ما قورن بالمسجد الكبير في العاصمة الفرنسية باريس أو المجمع الإسلامي في العاصمة البريطانية لندن، أو مسجد الملك فيصل وسط العاصمة الإسبانية مدريد، وهو خلاف ما ادعته الكثير من وسائل الإعلام العربية عندما وصفته بأنه أكبر المساجد الأوروبية على الإطلاق.

بعد لحظات من تبادل أطراف الحديث والتي مست بالأساس التاريخ الإسلامي للأندلس والآثار العربية التي مازالت تشهد بالماضي المجيد لهذه الأرض، بدأ المسلمون من أبناء الحي خصوصا من الأسبان في التقاطر استعدادا لصلاة العشاء والتي أمهم فيها الشاب حاج بشير كاستينييرا، البالغ من العمر 19 بعد تأخر والده الإمام عبدالحسيب كستينييرا، لينفض الجمع بعد التحاق المؤذن عبدالله بالمئذنة لرفع الصلاة.

المكتبة هي أول ما يقابلك وأنت تلج البناء الداخلي للمسجد، وبها عدد من الكتب الإسلامية المكتوبة بالإسبانية والتي تتخذ من الزكاة والصلاة والصوم وحياة الرسول الكريم محمد (ص) موضوعات لها، بالإضافة إلى تفاسير للقرآن الكريم.

بعد ذلك يتوجه الزائر أو المصلي عبر سلم تحت أرضي إلى دورة للمياه واسعة إلى حد ما، وقد كتب عليها مكان للوضوء باللغات العربية والإسبانية والإنجليزية والفرنسية، وهي تتسع لأكثر من 30 متوضئا في وقت واحد. وبعد الانتهاء من الوضوء يتجه إلى الصالة الرئيسية للمبنى والمخصص للصلاة.

العمارة التي بنيت بها «صالة الصلاة» جعلت شكل المسجد أخّاذا على رغم صغر مساحته والتي تم التعامل معها بطريقة ذكية حتى يمكن استغلالها بشكل كامل. فالبناء الداخلي للمسجد بني وفقا للمعمار الأندلسي/المغربي الشهير، إذ زينت الزخارف أركانه الأربعة، بالإضافة إلى المكان المخصص لإمام القبلة، فيما طلي السقف الخشبي باللونين البني والأصفر، لتضفي عليه الثريات والإضاءة المنبعثة منها مهابة وجمالا، فيما فرشت أرضية المسجد بزرابي بنية ميالة للاحمرار. وفي أحد أركان المسجد أقيم حاجز خشبي، تبين أنه فاصل بين المصلين الرجال والنساء، هذا وقد أضيف للجزء المخصص للنساء دورة للمياه كمكان لوضوئهن.

بعد تأدية الصلاة، التقت «الوسط» مجموعة من المسلمين الاسبان، وكان أول هؤلاء الحاج بشير كاستينييرا ابن امام المسجد. وينتمي الحاج بشير إلى الجيل الثاني من المسلمين الإسبان، وما يميز هذا الجيل أنه ولد مسلما بعد أن وجد الوالدين قد التحقا بالإسلام. والذي رد بالقول عن سؤال عن رأيه في تشييد «مسجد غرناطة الجامع»: «بلا شك أن الحدث سعيد بالمقاييس كافة، وأعتبره لبنة أولى في بناء صرحنا الإسلامي، بالإضافة إلى أنه محطة لابد منها لنصل حاضر ومستقبل هذه الأرض بماضيها التليد، ولدي يقين كبير بأنه سيكون دافعا لالتحاق المزيد من الاسبان الأندلسيين بدين أجدادهم».

أما أمير مالك عبدالرحمن رويز Ruiz الذي ولد بضواحي مدينة غرناطة قبل 32 سنة والذي يشغل منصب مهندس بالمجموعة الحضرية بالمدينة وأحد الذين أشرفوا على بناء المسجد، فقد قال عند سؤالنا له عن الرسالة التي يوجهها إلى زوار المسجد: «قبل كل شيء أقول لهم مرحبا بكم في مسجد غرناطة الذي أتمنى أن يكون علامة مميزة للوجه الحسن للإسلام ويضاف إلى الآثار الإسلامية التي تحبل بها المدينة، وأدعوهم وقبل إصدار أحكامهم المسبقة عن الإسلام إلى ضرورة التعرف عليه حتى يمكنهم التعرف أكثر على سماحته وكونيته».

في تلك الليلة التي توافق معها وجودنا في مسجد غرناطة التقينا الحاجة «سبع السماوات»، وهي مسلمة إنجليزية تنتمي إلى عائلة كان أفرادها من المستوطنين الإنجليز في الهند، سألناها عن كيفية التحاقها بالإسلام، فقالت: «انه وخلال أولى زياراتي لقصر الحمراء انتابني شعور بعظمة الرجال الذين بنوا هذا البنيان الجميل في وقت كانت أوروبا غارقة في ظلماتها وجهلها من هنا بدأت عملية البحث والمطالعة بشأن كل ما له صلة بالدين الإسلامي إلى أن هداني الله عز وجل للطريق الحق».

ومهما يكن من تعليقات هؤلاء وآرائهم إلا أنها اتفقت على الأهمية التاريخية لهذا الحدث الذي يعتبر خطوة أولى في مسيرة الألف ميل، يمكن أن يكرر معها تاريخ الثماني قرون، لكن هذه المرة ليس على يد فاتحين من وراء مضيق جبل طارق، لكن على أيدي حفدة المورسكيين المسلمين الذين أجبر آباؤهم على أمرين كان أحلاهما مر، إما المغادرة في اتجاه الشمال الافريقي للمحافظة على دينهم، أو البقاء في الأندلس «الفردوس المفقود» مقابل الارتداد عن الإسلام وإعلان تمسحهم

العدد 405 - الأربعاء 15 أكتوبر 2003م الموافق 18 شعبان 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً