بتاريخ 26 ديسمبر/ كانون الأول 2008 نشرت هذه الصحيفة مقالنا بشأن الفساد ويحمل عنوان «استغلال مركبة الوزارات للمنفعة الخاصة صورة مبسطة عن صور الفساد»، لقد أساء بعض القراء فهم ذلك المقال ومحتواه من الناحية الشرعية والقانونية، حيث اعتبره البعض أنه تشنيع لوضعه وتسليط للضوء عليه هو لوحده لأنه يستخدم سيارة الحكومة لعمله العام والخاص من فترة ليست بالقصيرة تحت سمع وبصر الجميع من دون اعتراض من أحد، البعض الآخر قال إنه هو المستهدف عبر المقال لأن مسمى وظيفته قد تم إدراجه في المقال المذكور، آخر قام بحملة تشنيع واستقطاب سلبية في المجالس والشوارع حول المقال بغية النيل من كاتبه بطريقة أو بأخرى، ونود أن نذكّره وغيره بقوله تعالى: «ما يلفظ من قولٍ إلا لديه رقيبٌ عتيدٌ» (سورة ق، آية 17)، كذلك بإمكاننا جرجرته لساحة العدالة على هذا الازدراء المتعمد والمتكرر استنادا إلى نص المادة رقم (364) من قانون العقوبات التي تنص على «يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنتين أو بالغرامة التي لا تجاوز مئتي دينار من أسند إلى غيره بإحدى طرق العلانية واقعة من شأنها أن تجعله محلا للعقاب أو للازدراء»، لكن المصلحة العامة التي نحن كنا ولازلنا ندافع عنها تقتضي عدم الرد على المنتقدين وتقبل النقد بروح رياضية من الجميع لمافيه حماية الصالح العام حيث أن المقال تكلم بشكل عام من دون تخصيص لشخوص أو أفراد أو وظائف بعينها تمشيا مع الواجب، مع العلم بأن أعداد المركبات الحكومية كبيرة جدا فهي تعد بآلاف ومنها المدني والعسكري ومنها ما يحمل شعارا واضحا، وآخر من دون شعار، ويقودها آلاف الموظفين العموميين من مدنيين وعسكريين، فكيف تسنى لمن استاؤوا من ذلك المقال أن يطبقوا محتواه على حالاتهم لوحدهم، وهنا ينطبق المثل الشعبي المصري القائل «إلي على رأسه بطحة يحسس عليها» في حين أنه -أي المقال المذكور- تحدث عن حرمة المال العام بشكل عام وكذلك فإن الحقيقة الشرعية هي أن الحرام حرام في القرآن والسنة النبوية الشريفة، وعليه لا يمكن تبرير فعل الحرام، لأن هناك من يعمل وعمل الحرام والقرآن صريح بهذا الخصوص، حيث قال تعالى: «كل نفس بما كسبت رهينة»، وقال غز من قائل: «ولا تزر وازرة وزر أخرى»، وقال أيضا: «لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد» (سورة ق آية 21) هذه الآيات تؤكد أن كل إنسان مسئول عن أفعاله يوم الحشر أمام الله تعالى ولا يجوز له التذرع بأن فلانا عمل كذا وأنا قلدته تقليدا أعمى لأعمى، كذلك ألا تتذكرون قصة الإمام علي (ع) مع أخيه عقيل، كيف أن الإمام علي (ع) عندما كان خليفة على المسلمين حيث كان يتحكم في أمور المسلمين في تلك الامبراطورية الإسلامية الكبيرة والشاسعة الممتدة من المغرب العربي إلى شرق آسيا والقارة الإفريقية وقام بتوزيع بعض الخراج على الرعية ومنهم أخوه عقيل وقد صحب عياله معه حتى يستعطف الإمام علي (ع) ويزيد له حصته خلاف الآخرين، فبدلا من ذلك قام الإمام علي (ع) وحمى (سيخ حديد) وقربه من أخيه وما كان من أخيه عندما أحس بالحرارة إلا أن قال له هل تريد أن تحرقني فرد عليه الإمام بأن لظى يوم القيامة هو أحر من حرارة هذا السيخ الحار، بمعنى أن الإمام كان يريد إبلاغ أخيه بأنه لو أعطاه أزيد من حصته المقررة له ولأمثاله من عامة الناس فسيواجه لظى نار جهنم، لكن الإمام لم ولن يتنازل عن الحق في إعطاء كل ذي حق حقه بالتساوي من دون محاباة حتى مع أخيه الضرير وصاحب العيال الكثيرة، هذا هو معيار الحرام والحلال في الشريعة الإسلامية.
اليوم سأتحدث عن موضوع آخر هو القطاع العام (PBULIC SECTOR) يعني عملا يتعلق بالحكومة هذا أول ما يتبادر إلى ذهن المستمع لتلك الكلمة في أية بقعة من العالم، لكن ما هو القطاع العام من الناحية الإدارية أولا والقانونية ثانيا، بالنسبة للتعريف الإداري لتلك الكلمة فهي تعني (العاملون في الحكومة بكل مؤسساتها المدنية والعسكرية) وفي البحرين حاليا يبلغ عدد العاملين في القطاع الحكومي بحسب إحصائيات ديوان الخدمة المدنية يبلغ نحو 35 ألف موظف، وإن ديوان الخدمة المدنية هو المنوط به مراقبة تسيير أمور الموظفين العموميين المدنيين فقط في جميع الوزارات والهيئات الحكومية المدنية بحسب مرسوم رقم (6) للسنة 1975 بإنشاء ديوان الموظفين، أما التعريف القانوني للقطاع العام فقد نصت عليه الفقرة رقم (1) من المادة رقم (16) من الدستور الصادر بمرسوم رقم (5) للسنة 2002 حيث نصت على «الوظائف العامة خدمة وطنية تناط بالقائمين بها، ويستهدف موظفو الدولة في أداء وظائفهم المصلحة العامة، ولا يولى الأجانب الوظائف العامة إلا في الأحوال التي يبينها القانون»، كذلك عرفت الفقرات رقم (1+2+3+4+5+6) من المادة رقم (107) من مرسوم بقانون رقم (15) للسنة 1976 بإصدار قانون العقوبات والإجراءات الجنائية البحريني حيث نصت على «أنه يقصد بالموظف العام في حكم القانون (القائمون بأعباء السلطة العامة والعاملون في وزارات الحكومة ومصالحها ووحدات الإدارة المحلية وأفراد القوات المسلحة، وأعضاء المجالس والوحدات التي لها صفة نيابية عامة سواء كانوا منتخبين أو معينين، كل من فوضته إحدى السلطات العامة في القيام بعمل معين وذلك في حدود العمل المندوب له، رؤساء وأعضاء مجالس الإدارة والمديرون وسائر العاملين في الوحدات التابعة للهيئات والمؤسسات العامة ويستوي أن تكون الوظيفة أو الخدمة دائمة أو مؤقتة بأجر أو بغير أجر طواعية أو جبرا، ولا يحول انتهاء الوظيفة أو الخدمة دون تطبيق أحكام هذا القانون متى وقع العمل أثناء توافر الصفة»، وعليه وبحسب قانون الخدمة المدنية ولائحته التنفيذية فإن الموظف العام عليه العمل بحد أقصى حتى يبلغ عمره (60 عاما) بغض النظر عن تاريخ توظيفه تمشيا مع نص الفقرات (أ+ ب+ ج+ د+ ه+ و+ ز+ ح+ ط+ ي) من المادة رقم (72) من القانون رقم (35) للسنة 2006 بإصدار قانون الخدمة المدنية، كذلك نصت المادة رقم (73) من القانون نفسه على أنه «تنتهي خدمة الموظف ببلوغه سن الستين مالم تقرر السلطة المختصة بالتعيين تمديد مدة خدمته وذلك بمراعاة أحكام القانون رقم (13) للسنة 1975 بشأن تنظيم معاشات ومكافآت التقاعد لموظفي الحكومة وتعديلاته وللسلطة المختصة إشعاره بالإحالة قبل عام على الأقل من بلوغه سن التقاعد، واستثناء من حكم الفقرة السابقة يجوز إحالة الموظف للتقاعد قبل بلوغه السن المقررة بناء على طلبه، وذلك وفقا للقوانين والأنظمة المقررة لذلك)، لكن لوحظ أن هناك حالات تقوم فيها بعض الوزارات والهيئات الحكومية بتصغير أعمار الموظفين كبيري السن أو بالتمديد لبعض الموظفين عبر التعاقد معهم بعد مرحلة سن التقاعد، وإليكم مانعتقده من مبررات تلك الجهات من الناحية الإدارية والقانونية والرد عليها: أولا: المبررات الإدارية: التي يستند إليها المؤيدون لإعادة توظيف المتقاعدين في الحكومة بحسب ما نعتقد تقوم مبرراتهم على أن هؤلاء لديهم الخبرة والمعرفة والدراية العلمية والعملية والمهنية التي اكتسبوها ويتحلون بها وكذلك الحاجة لتسيير الجهاز الحكومي من دون أن يتأثر المنتفعون منه، ونحن نرى أن الإدارة الحديثة في جميع إنحاء العالم في العادة تقوم بخلق صف ثان من الإداريين قبل فترة ليست بالقصيرة على خروج رؤسائهم إلى التقاعد ويتم إخراطهم في برامج تدريبية داخلية وخارجية مكثفة قبل إسناد مهمات رؤسائهم إليهم في غيابهم في إجازاتهم السنوية أو أثناء خروجهم في مهمات رسمية ما يؤهلهم لشغل تلك الوظائف عند خروج الموظفين كبيري السن شاغلي تلك الوظائف على التقاعد ومن دون أن يتأثر الجهاز الإداري أو المالي الذي ينتمون إليه لا من حيث كمية العمل المسند إليه أو كمية الإنتاج المتوقع منه، ثانيا: المبررات القانونية: ربما يستند الداعمون لإعادة توظيف المتقاعدين في الحكومة على نص الفقرة رقم (8) من القانون رقم (35) للسنة 2006 بإصدار قانون الخدمة المدنية التي تنص على أن «الوظائف أما دائمة أو مؤقتة، وتقسم الوظائف التي يسري بشأنها هذا القانون إلى مجموعات تحددها وتنظمها اللائحة التنفيذية، كما تحدد اللائحة قواعد وأحكام ترتيب وتقييم وتصنيف وظائف هذه المجموعات، وتضع اللائحة التنفيذية قواعد إنشاء الوظائف المؤقتة وإلغائها»، كذلك ربما هم أيضا استعانوا بنص الفقرة رقم (ج) من المادة رقم (139) من الدستور الصادر بمرسوم رقم (5) للسنة 2002 والتي نصت على أنه «لا يجوز فرض عمل إجباري على أحد إلا في الأحوال التي يعينها القانون لضرورة قومية وبمقابل عادل، أو تنفيذا لحكم قضائي» فقط الفقرة رقم (ب) من المادة رقم (025) من قرار رقم (379) للسنة 2006 بإصدار اللائحة التنفيذية لقانون الخدمة المدنية الصادر بالقانون رقم (35) للسنة 2006 أعطت (3) مبررات للتوظيف المؤقت في الحكومة وهي «تغطية الاحتياجات الماسة عند خروج بعض الموظفين في إجازات، المساعدة في تنفيذ بعض البرامج أو المشاريع الطارئة بحيث لا تتجاوز مدتها المدة المسموح بها للتوظيف المؤقت، وجود مبررات أخرى يتعذر من خلالها الالتزام بالتعين الدائم أو الاستفادة من التوظيف الجزئي في الخدمة المدنية وذلك بعد موافقة ديوان الخدمة المدنية» أنا أعتقد أنهم أي مؤيدي تقصير أعمار كبار السن من الموظفين أو إعادة توظيف المتقاعدين منهم قد استندوا على فرضية وجود مصلحة قومية ومن هذا الباب قاموا بالسماح بتصغير أعمار الموظفين الكبار في السن أو بتوظيف المتقاعدين منهم في الحكومة بصورة مؤقتة وقاموا بعدها بتجديد التمديد لهم عاما بعد عام بحجة المصلحة والضرورة القومية، حيث لا يوجد نص في قانون الخدمة المدنية يعطي هذه الجهة أو تلك هذا الحق وإن كان موجودا فهو قبل كل شي مشروط، علاوة على أنه حق مؤقت ومشروط بالوقتية والحاجة الملحة أي أنه غير مفتوح البتة.
لكن ما تقدم نحن لا نؤيد البتة السماح للموظفين من كبار السن القيام بعملية تصغير أعمارهم بنفسهم ولا إرشادهم لعمل ذلك وكذلك لا نؤيد إعادة توظيف الموظفين كبار السن من المتقاعدين منهم من جديد في الحكومة إلا بصورة بسيطة مؤقتة وأن تقتصر على الوظائف الحساسة مثل القضاة، المستشارون، الأطباء المهندسون ذوو الاختصاصات النادرة جدا وذلك بعد تنفيذ عملية إعلان داخلي في الوزارة نفسها والمصلحة الحكومية وإذا لم يتوافر الشخص المؤهل من داخل الوزارات والمصلحة الحكومية يتم من ثم عمل إعلان آخر في الصحف المحلية وبعدها الخارجية ...الخ، وعلى شرط أن تكون السوق تفتقر لتلك التخصصات أي سوق العمل حاليا بحسب المواصفات المطلوبة لتسيير بعض مواقع الدولة، بل نعتقد بأن على الحكومة تشجيع من يرغب من الموظفين العاملين في الحكومة والهيئات الحكومية حاليا من الجنسين في الخروج على التقاعد، شريطة أن يخرج من يرغب تحت ترتيب عادل يصون له كرامته ويحفظ له ومن يلوذون به كرامتهم وحياتهم الكريمة والعيش الرغيد عبر حصولهم على دخل يؤمن تلك الحاجات الحياتية، كذلك فإن غلق الباب حول تمديد أعمار الموظفين أو توظيفهم عبر عقود مؤقتة أو ممددة بالتأكيد سيؤدي إلى خلق فرص عمل كثيرة إلى الشباب الذين هم في أمسّ الحاجة إليها في البلد ويؤدي غلق هذا الباب وعدم التمديد أيضا إلى تقليص نسبة العاطلين والتي بدورها تقلص التبعات الخطيرة للبطالة في أي بلد، ومنها مملكة البحرين.
أحمد سلمان النصوح
محام وباحث في الشئون القانونية المحلية والدولية
العدد 2338 - الخميس 29 يناير 2009م الموافق 02 صفر 1430هـ