ربما البعض منا ينظر لإحياء ذكرى الواقعة الأليمة التي حدثت فصولها المروعة والمأساوية على أرض كربلاء في العراق قبل 1369 سنة هجرية، والتي راح ضحيتها سبط رسول الله وريحانته الإمام الحسين عليه السلام وكوكبة من أهل بيت النبي محمد (ص)، وعدد ليس بالقليل من أنصاره. إن تذكر تلك الفاجعة لا يسهم في توحيد الأمة الإسلامية، وكأن توحيد الأمة الإسلامية لا يتم إلا إذا ما مسحت الأمة التاريخ المأساوي من ذاكرتها وأذهان أجيالها، ليس معقولا من الناحية العقلية والموضوعية أن نقول لأجيال الأمة الإسلامية، أن تاريخنا كله ناصع وجميل وليس فيه ما يخجل، وأن كل من عاش في تلك الحقبة التاريخية على درجة واحدة من الإيمان والتقوى والورع والعلم والإباء والنبل والشهامة والإنسانية، نحن لا نتكلم عن مجتمع ملائكة الذين خلقهم ربهم للطاعة والعبادة وليس لهم سبيل غير ذلك الطريق، ولم يودع فيهم حب الأنا التي تدفع بالمخلوق إلى الانتقام وظلم الغير من بني البشر، ولم يجعل فيهم الغرائز الجنسية التي تدفع بصاحبها غير المتقي إلى ارتكاب حماقات أخلاقية ضد بني جنسه في كل الأماكن وفي كل الأزمان قديمها وحديثها، كلنا نعلم أن الإنسان بمجرد تخليه عن القيم الأخلاقية السامية التي أرشدنا إليها إسلامنا العظيم، يكون معرضا إلى غزو شيطاني مكثف لا هوادة فيه على النفس الإنسانية التي بفطرتها الطاهرة ترفض كل ما هو قبيح من قول أو فعل حتى في أضيق الحدود، وكيف إذا كان القبح يصل إلى هتك الأعراض والحرمات وقتل النفس التي حرم الله مسها بغير حق في كل الأحوال والظروف، لا يمكننا أن نطلب من الدول التي تعرضت للمآسي والتدمير القاسي في الحربين العالميتين الأولى الثانية، اللتان خلفتا الكثير من الضحايا والدمار، بأن لا يتغنوا بها في ذكرى حدوثها وأن لا يجعلونها ذكرى سنوية ولا يمكن التنازل عنها، إذا ما أردتم العالم يتعاطف معكم، ولا يستطيع أحد من الناس أن يطلب من الشعب المصري الأبي أن ينسى كل ما حدث في نكسة 67 التي خلفت الكثير من الشهداء والجرحى من مختلف الفئات والأعمار، ولا يمكننا أن نقول لأهالي ضحايا الحادي عشر من سبتمر/أيلول والمتعاطفين معهم من أبناء بني البشر، عليكم أن تنسوا هذه الحادثة ولا بد لكم أن تمسحوها من ذاكرتكم وأذهانكم، وليس لنا الحق أن نقول لإنسان العراق الذي لاقى ومازال يلاقي الويلات من الاحتلال الأميركي والهجمات الإرهابية العمياء التي تحصد أرواح شبابهم وشيوخهم ونسائهم وأطفالهم، أن لا تتذكر كل ما حدث لك من مآس ومازالت تحدث، ولا يمكننا أن نقول لأهالي قانا اللبنانية أن لا تتذكروا تلك الفاجعة الرهيبة التي قام بتنفيذها الكيان الغاصب للقدس الشريف، ولا نجرؤ أن نقول لأهلنا في صبرا وشاتيلا ليس لكم أن تحبسوا أنفسكم في دائرة تلك الحوادث المروعة التي صنعتها ونفذتها الأيدي الصهيونية الخبيثة، ألغوا ما أصابكم من ظلم من ذاكرتكم، حتى يتسنى لكم أن تسمعوا صوتكم للعالم عبر المنظمات الدولية، وليس من التعقل أن نقول لإخواننا في غزة المظلومة والمحاصرة بحقد وكراهية الكيان الصهيوني الدفين، عليكم أن تنسوا أنكم تعرضتم في يوم من الأيام إلى عدوان شرس من عدو حاقد على الإنسانية، وعليكم أن تمدوا أيديكم إلى ذلك العدو الذي أراد إبادتكم، لتصافحوه وتقبلوه وتأخذوه بالأحضان وتضحكوا معه، وكأنه صديق حميم، إذا ما أردتم حياة كريمة هانئة، وإذا ما أردتم العالم يقف معكم في قضاياكم، وليس بمقدور أحد من البشر أن يطلب من أؤلئك ما يخالف الأخلاقيات السليمة، لأن الطلب في حد ذاته يبعد الإنسان إلى مسافات بعيدة عن الفطرة الإنسانية، التي تختزن الكثير من الحوادث المفرحة والمحزنة، فيشيد بالحوادث الجميلة التي ساهمت في تنمية الإنسان أخلاقيا وإنسانيا وعلميا وثقافيا، ويأسف كثيرا لحدوث المآسي والمصائب التي وقعت في هذه الزاوية أو تلك في هذا العالم الإنساني الفسيح، في مختلف العصور والأزمان، ليس ليستنكرها ويندد بكل فصولها المأساوية، وإنما ليرفضها رفضا قاطعا، ولا يحاول أن يعطي الذرائع والمبررات إلى أؤلئك الذين ارتكبوا هذه الحادثة أو تلك، فإحياء ذكرى واقعة كربلاء يأتي في كل عام ليفسح المجال للناس لأن يقفوا طويلا أمامها، وليتأملوا في فصولها المروعة التي أحدثت شرخا في التاريخ لا يندمل إلى يوم القيامة، لأن ما حدث خرق كبير لكل النواميس الأخلاقية والإنسانية والقانونية والحقوقية بمختلف معانيها السامية، ليس غريبا على أصحاب القلوب الإنسانية التي يتلى عليها ما جرى من حوادث رهيبة لأبناء وبنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الواقعة، أن تدمع عينها وتدمى قلوبها لهول وعظم ذلك الحدث المأساوي، فحادثة كربلاء تحمل في طياتها الكثير من المعاني الإنسانية الراقية التي سجلها الإمام الحسين عليه السلام في أحلك الظروف وأصعبها، كان يبكي على من جاؤوا لقتله وسفك دمه وسحقه بالخيل ومحاصرة أهل بيته ومنع الشرب والأكل عنهم، كان يردد وبحسرة شديدة، أبكي على هؤلاء القوم الذين سيدخلون النار بسببي، هذا السلوك الراقي،لا يأتي إلا من إنسان راق كالإمام الحسين، وليس بغريب على الحسين أن يقول هذا الكلام، لأن جده المصطفى صلى عليه وآله وسلم، رفع يده بالدعاء في موقعة أحد، وهو في ذلك الحال العصيب، ليطلب وبإلحاح شديد من ربه، أن يمن على قومه بالهداية، فكان يقول: «اللهم أهد قومي إنهم لا يعلمون». هذه الثقافة لا بد أن تغرس في نفوس الأجيال، حتى تتأسى بهذه الشخصيات العظيمة والجليلة، التي خلقها الله سبحانه وتعالى لتكون أنموذحا يحتذى به، وفي المقابل لا بد لهم أن يتعرفوا على المواقف المشينة التي حدثت في تلك الواقعة، ليقفوا منها موقفا رافضا، لأن الرفض لتلك الحوادث، يكون بمثابة الحصانة الأخلاقية التي تمنعه من ارتكاب الحماقات ضد بني البشر، وتكون حصنا منيعا له لو هو فكر في إيذاء أخيه الإنسان نفسيا أو جسديا أو فكريا، كيف وهي بكل فصولها تمثل الدروس البليغة للإنسانية جمعاء. جميل أن يتربى أطفالنا على رفض كل أمر قبحه الله ونهى عنه، وكل أمر من شأنه أن يؤذي النفس الإنسانية، فلهذا نجد كل الحوادث التي سجلها التاريخ تتصاغر أمام ما حدث للإمام الحسين، وليس بعجيب إذا ما تمحورت الأمة الإسلامية بشأن مأساة عاشوراء وجعلتها السبيل الأمثل لتوحيدها، لأن كل أبناء الأمة بمختلف مشاربهم الأخلاقية والعقائدية والفقهية لا يختلفون في الحسين الشهيد، ولا يختلفون بأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، ولا يختلفون في أن الحسين الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «حسين مني وأنا من حسين»، ولهذا نقول وبكل اطمئنان إن الحسين السبيل الذي جعله الله لتوحيد الأمة قاطبة، وتعبير الأمة عن شعورها تجاه هذا الحدث الرهيب يتطور بتطور الزمن، في هذه الذكرى تتفجر الطاقات البشرية، وتبرز الإبداعات في مختلف الاتجاهات الثقافية والفنية والخطابية، في إطارها الشرعي الذي يقدر ويحترم كل مبدع ومتميز.
سلمان سالم
العدد 2338 - الخميس 29 يناير 2009م الموافق 02 صفر 1430هـ