نبيل علي صالح - كاتب وباحث سوري/ والمقال ينشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.o
28 ديسمبر 2009
معوقات البحث العلمي العربي:
بالنظر إلى ما تقدم من أرقام وتحليلات (انظر الجزء الأول من المقال)، نتساءل عن حجم تلك المشاكل والمعوقات التي تواجه مسيرة البحث العلمي العربي؟!
وبالتالي ما هي مقومات ومستلزمات قيام بحث علمي عربي متكامل؟!.. .
في الواقع يمكننا أن نتحدث عن أهم تلك المشاكل والتحديات في النقاط التالية:
1 - غياب سياسة علمية واضحة ومتوازنة ومتسقة يمكن أن تنظم عملية البحث العلمي لتركز الأولويات، وتوجه الموارد، وتستثمر الطاقات والقدرات المتاحة والمتوافرة حسب سلم الأولويات الموضوع... إذ انه لا يكفي أن تخصص الدول العربية جزءا محددا من موارد إنفاقها الأساسي (في ميزانياتها السنوية التي تضعها في نهاية كل عام عن العام الذي يليه) للقيام باستثمارات علمية في ميدان البحث العلمي فقط، ولكن لابد من دراسة ومعرفة أفضل الأساليب وأنجع الطرق للاستفادة من هذه الاستثمارات في شروطنا ومناخاتنا السياسية والاجتماعية السائدة بين ظهرانينا... وطبعا نحن يجب أن نبحث باستمرار، لكن ذلك مرتبط بسؤال أساسي وجوهري هو: لماذا نبحث، ولمن نبحث، وما هي أسس وركائز هذا البحث؟!
ويبدو واضحا أمامنا هنا أن السياسات العلمية لمعظم الدول العربية غير قادرة - في كثير من الأحيان - على إعطاء إجابات مقنعة على ذلك السؤال أو تحديد أهداف وغايات واضحة ومجدية للبحث العلمي بشكل عام، وفي مختلف المجالات والميادين... كما أنها (تلك الدول) لاتزال شبه عاجزة - بالرغم من كل التقدم الحاصل في هذا الملف الخطير - عن تحديد أساليب ووسائل وآليات عمل مناسبة لبناء الأداة والقاعدة البشرية والصناعية لتحقيق تلك الأهداف والطموحات الكبيرة (وفي مقدمتها بناء مستقبل وجيل علمي عربي قادر على تلبية احتياجات وجوده الحيوي، والإيفاء بمتطلبات الحياة المتسارعة والمتطورة)... لذلك من الطبيعي جدا - والحال هذه - أن يسود الوسط البحثي العلمي العربي جو انعدام الوزن والتخبط والفوضى، والتردد، والافتقار للتراكم والتقدم والتطور والوعي.
2 - ضحالة الموارد ونقص الإمكانيات المخصصة للقيام بالبحوث العلمية... حيث تشير آخر الأرقام والإحصاءات المتوافرة في هذا المجال إلى أن حجم الإنفاق العربي العام على بحوث التطوير العلمي والتقني قد بلغ العام 1992 (800) مليون دولار، وهذا المبلغ لا يزيد على 0.016 من الناتج القومي الإجمالي، وهو أدنى المعدلات في العالم الثالث كله. وتبلغ هذه النسبة حوالي 1.05في المئة في البلدان النامية عموما و3.4 في المئة في البلدان التابعة لبعض المنظمات العالمية.
أما الولايات المتحدة، وبحسب تقرير المؤتمر القومي السابع، فإنها تخصص أكثر من 225 مليار دولار للبحث والتطوير، أي نحو 300 ضعف ما تخصصه البلدان العربية مجتمعة على أساس نصيب الفرد الواحد. كما وتخصص «إسرائيل» ما مجموعه 6 مليارات دولار للبحث العلمي سنويا في جامعاتها ومراكز بحوثها العلمية.
3 - وهن (و ضعف) استراتيجيات التحديث العربية، وعدم توازنها وعدم فاعليتها واتساقها؛ لأن الأصل في التحديث والتطور العلمي أو الحداثة العلمية هو في بناء استراتيجية حقيقية ناجحة تعظم من الاستثمارات العلمية المفيدة في كل ميدان: (تكوين رأس المال الاقتصادي والعلمي والتقني والفكري والروحي والاجتماعي، وتحرير الشعوب والجماعات والأمة من الخوف والاستلاب والجمود والامعية والاقتداء والاستزلام والمحسوبية والشعور بالضعف والنقص والدونية)، وهذا الأمر يتناقض تماما مع الواقع القائم في المجتمعات العربية حاليا.
ولا يخفى أن نشير هنا إلى أن سيطرة هذا المناخ السلبي المناقض لبديهيات شروط نمو ونشوء البحث العلمي، قد أدى - وسيؤدي في المستقبل أيضا - إلى هدر وخسارة مبالغ طائلة وإساءة استخدام واستثمار الأموال العربية التي ازدادت في الآونة الأخيرة نتيجة زيادة أسعار النفط ووصوله إلى حدود قياسية، فقد قدرت دراسة حجم الإنفاق المالي على الخدمات الاستشارية التي قدمتها المكاتب والشركات الأجنبية للدول العربية بنحو 23 مليار دولار في عام واحد هو 1979... (راجع تقرير لجنة استراتيجية تطوير العلوم والثقافة في الوطن العربي) (ص 129-130)، وقد ازدادت هذه النسبة أخيرا بشكل كبير ملفت نتيجة الاعتماد الكلي على التقنيات والبحوث العلمية المستوردة من الدول الأخرى.
4 - انعدام الحريات الأكاديمية والفكرية العامة في المجتمعات العربية، وعدم توفر المناخ السياسي الملائم للإبداع والحداثة العلمية والاقتصادية بإطلاق حريات الأفراد وتوفير إمكانيات المشاركة الفعلية أمامهم سواء من النخب العلمية أو من مختلف قطاعات الشعب الأخرى، لان ملاحم التقدم والازدهار العلمي والتقدم التقني وامتلاك المستقبل ترتبط حلقاتها وتتسع - في كل التاريخ البشري - لجهود الجميع في مناخ من المساواة والحرية والعدل والأمان الجماعي والحس الوطني الواعي والهادف.
5 - عدم وجود سياسات تربوية علمية فعالة وناجحة تقوم بتنشئة الأجيال على مقدمات ومعطيات البحث والتدقيق والاهتمام؛ لأن نشوء وقيام وازدهار بحث علمي حقيقي في مستقبل الأمة - أية أمة - مرتبط أشد الارتباط بطبيعة التنشئة الاجتماعية لأجيال تلك الأمة. وفي هذا الإطار يجب أن تؤدي الأسرة دورا فاعلا في تنشيط الطاقات الإبداعية والإنتاجية لدى أبنائها وتوجيهها الوجهة العلمية السليمة على صعيد الاهتمام الجدي المسئول بروحية العلم والبحث العلمي ودوره الهام في الحياة الإنسانية. ولكن أين نحن من هذا الهدف الكبير طالما أن الأسر عندنا مهمومة ومشغولة بتأمين أدنى متطلبات وجودها الآدمي (من مأكل ومشرب وملبس ومسكن).
6 - ضعف وتفكك المجتمع العلمي والتقني العربي وفي أحيان كثيرة عزلته عن النشاط الوطني العام، وضعف مراكز المعلومات وخدمات التوثيق والمكتبات، وعدم توافر المناخ الملائم للعمل البحثي، وانتشار البيروقراطية، وقلة الحوافز المادية، والتبعية العلمية والتقنية للخارج، وضعف البنيات الأساسية للحراك الاجتماعي والاقتصادي العربي الذي يفترض أن يشكل - من حيث المبدأ - القاعدة الصلبة لقيام البحوث العلمية.
وهذا الواقع السيئ والمأساوي سيفضي لا محالة إلى استنكاف الباحثين عن العمل وبالتالي حدوث نقص كبير في الإنتاج العملي من حيث المردود النوعي والكمي معا، حيث نلاحظ - في هذا المجال - أن إنتاج العلماء العرب يقف عند حد 0.4 بحث في العام. أما فيما يتعلق بالإنتاجية العربية مقارنة مع الكيان الصهيوني (التي تبلغ ميزانية البحث العلمي لديه حوالي 6.5 مليارات دولار سنويا) والدول المتقدمة الأخرى، لا يزيد الناتج العربي على 0.9 في المئة من الناتج الإسرائيلي، وأقل من ذلك - بالتأكيد - بالنسبة للدول المتقدمة الأخرى.
وتشير إحصائيات اليونيسكو إلى توفر حوالي تسعة آلاف عالم وفني في ميدان البحوث والإنماء في الوطن العربي في العام 1973، وكان على هؤلاء أن ينشروا - إذا استخدمنا المقاييس الدولية للأداء - ما بين 4000 و8000 بحث سنويا، بينما لم ينشر الباحثون العرب إلا 847 بحثا أي بمعدل إنتاجية أقل من 10 في المئة من المعدل الدولي، وهذا يعني أن هناك حاجة لعشرة باحثين عرب في المتوسط لإنتاج ما ينتجه باحث واحد في المتوسط الدولي.
وبالنظر إلى ذلك فإننا نؤكد أن هناك هوة واسعة - تتزايد يوما بعد يوم، حيث الآخر يتقدم بسرعة، ونحن نراوح مكاننا أو نتقدم أحيانا ببطء شديد - بين العمل الجدي الحقيقي المنتج والمطلوب وبين ما هو منتظر من الإمكانات والمواهب البشرية العاملة في ميدان البحث والتطوير من العلماء والأكاديميين الباحثين في المؤسسات العلمية العربية.
ولذلك إذا أرادت مجتمعاتنا العربية - والقيمون عليها من القادة والنخب - أن تفتح مسارات وطرقا واسعة لها باتجاه امتلاك زمام المبادرة الحضارية في المستقبل - وبالتالي المساهمة الفعالة في بناء وتطوير الحضارة الإنسانية - فعلى نخبها وقياداتها (من مفكرين وسياسيين وعلماء دين) أن تعيد الاعتبار مباشرة للعمل المؤسساتي، ولدولة القانون والعدل. دولة الموازنات والخطط التنموية الشاملة التي ترعى - بصدق ومسئولية - العلم والعلماء، وتتيح عملية المشاركة في صنع القرار، وتقوم بتنمية الثروة بالإدارة العلمية الكفية، وتجعل من العلم والبحث العلمي المبدع رافعة للدولة والمجتمع على أساس أولوية العلم على المال، والوعي على تكديس المال والثروة، وذلك باعتبار أن هناك طاقة وقيمة حضارية مختزنة في ذات العلم تضع المال والثروة في خدمة هذا العلم الذي يخطط بطاقته، ثروة ومال الأمة.
إن التحديات والأخطار القائمة حاليا كبيرة جدا، وهي ستزداد في مقبل الأيام، ولا سبيل إلى فهمها ومواجهتها - الآن وفي المستقبل - إلا بانتهاج طريق العلم والمعرفة العلمية المتوازنة التي يجب أن تدفعنا جميعا - بحكم ضعفنا وانهيار مناعتنا الذاتية - إلى إعطاء القيمة الكبرى للعلم والبحث العلمي، وما يستحقه من عناية واهتمام، وبناء الإدارة العلمية الأخلاقية، وابتكار أساليب جديدة لتنشئة الأجيال العربية على عشق العلم الهادف، وتنمية حس المبادأة، وروح المبادرة والبحث والتنقيب والسؤال لديها.
إننا نعتقد أن البحث العلمي العربي المنشود هو أحد العناوين المشرقة التي يمكن أن تمنحنا - من خلال تفعيل أدائها ودعمها وفتح المجالات أمام خبراتها للانطلاق والمساهمة في بناء الإنسان وتنمية المجتمع - القدرة على المضي قدما في عملية النهوض الحضاري لعالمنا العربي، وامتلاك المستقبل بالارتكاز على رؤية حضارية علمية تعتمد على إعادة النظر في تنظيم آليات الانبعاث، وأنماط الإيقاظ المستمرة لفكر الإنسان العربي، وتعميق إدراكه ووعيه بطبيعة التغيرات الكبيرة الحاصلة في العالم، وتهيئته لها نفسيا وماديا، وهذا الأمر يتطلب التركيز الدائم على إجراء البحوث الاجتماعية الإنسانية نفسها، لأنها القادرة على كشف ذات الإنسان ومحتواه الداخلي وفهم تشكيلاته وأبنيته الاجتماعية، وبالتالي تربية الأجيال الشابة وإعدادها للمستقبل من خلال توفير مناهج علمية (تربط العلم بالأخلاق الإنسانية) وتأمين وسائل علمية متطورة.
والأمة التي تريد أن تنتج أو تبدع شيئا جديدا أو تضيف عناصر جديدة مفيدة للحياة والإنسان، هي الأمة التي تحترم شعبها وجماهيرها وتقدر كفاءاتهم ومواهبهم وإبداعاتهم الفكرية والعلمية، إنها الأمة التي تعي حقيقة مقدراتها وثرواتها الطبيعية والبشرية، وتقوم بتوجيهها الوجهة الصحيحة على صعيد العمل والممارسة الإبداعية وربط الأهداف بالنتائج المثمرة، وبما يخدم تطلعاتها وأهدافها العالية والطموحة في قيام الإنسان الذي هو أساس الحياة ومنطلق الوجود.
إنني أرى أن مستقبلنا هو رهن لفعلنا وعملنا في الحاضر، إنه ثمرة أعمالنا وحصاد ما نزرعه في لحظتنا الراهنة التي يجب أن نعمل فيها على تغيير أوضاعنا من الداخل، وتحسين مواقعنا ومضاعفة جهودنا، وفهم دورنا في العالم، وتكثيف مساهمتنا في المسيرة الإنسانية العالمية، وانفتاحنا على الآخرين بوعي وثقة ليكون لنا موقع ودور في الحضارة الحديثة وذلك من خلال ضرورة الوقوف المتأمل أمام الثوابت الفكرية والمعرفية للأمة والاهتمام النقدي الصحيح بنسيجها وبنيانها التاريخي الحيوي.
ومن خلال ذلك يمكن أن تحدث عندنا يقظة حضارية أو انبعاث حضاري عربي حقيقي مثمر قد نمتلك عبره بعض معالم السيطرة على المستقبل.
ولاشك أن ذلك يمر في طريق ممارسة النقد والمراجعة لكثير من حساباتنا الثقافية والسياسية والاجتماعية كما ذكرنا، بحيث يؤهلنا - هذا النهوض أو الانبعاث الحضاري المستقبلي - أن نكون (كأمة تملك موارد ومواهب وطاقات وافرة) معادلة متوازنة ومتكاملة في وجودها مع المعادلات الأخرى، ولاشك أن السبيل الوحيد إلى ذلك هو تغيير ما بالنفس كأساس لتغيير ما بالواقع.
العدد 2671 - الإثنين 28 ديسمبر 2009م الموافق 11 محرم 1431هـ