إنها تمطر مرة أخرى في جزيرة بينانج، الجزيرة التي سحرت الكثيرين من زوار ماليزيا، والمطر أمر عادي وطبيعي وشبه يومي هنا، وعلى من يعيش على هذه الجزيرة أن يتعود على التعايش مع المطر، ويحمل معه مظلة باستمرار... تحسبا لأية أمطار فجائية.
ولعل من يسمع عن جزيرة بينانج، التي تبعد حوالي 300 كيلومتر عن العاصمة الماليزية كوالالمبور، يعرف كم تملك هذه الجزيرة من سحر وجمال طبيعي أخاذ. فقد اشتهرت بشواطئها الأخاذة التي تحمل إضافة إلى السحر متعة ورياضة مائية. كل هذا يراه السائح الزائر إلى هذه الجزيرة، أما من اتخذ من المدينة موقع إقامة له فلن يجد شيئا كثيرا ليفعله.
الحياة في بينانج باردة، هادئة وبطيئة. فعلى رغم الحرارة الشديدة والمرتفعة للجو في المدينة ليلا ونهارا وعلى مدار العام، فقد اكتسبت الحياة في بينانج طابع الرتابة. جميع سكان المدينة تقريبا يعيشون في هدوء وانسجام ومن دون مشكلات أو حوادث صاخبة. لا يعرفون الصخب العالي الذي تتميز به العاصمة كوالالمبور مثلا. وربما يكون اقصى ما قد يفعله سكان المدينة في ليلة مثل «ليلة رأس السنة» أن يتجهوا إلى شاطئ البحر لمشاهدة الألعاب النارية التي تنطلق من كل جهة في تمام الساعة الثانية عشرة مساء، أو يخرجوا إلى الشوارع العامة بدراجاتهم النارية وسياراتهم مطلقين لأبواق سياراتهم العنان لخلق إزعاج يحرك برود هذه المدينة قليلا، ثم يعود كل منهم إلى منزله، لينام ويبدأ حياته في اليوم الثاني من جديد، بالرتابة نفسها. فلا يتجاوز مفعول هذه الحركة ليلة واحدة حتى يعود كل شيء إلى طبيعته!
ولكن، على رغم ذلك، قد تكتشف مع الوقت وجود مناطق حية وصاخبة وتعجّ بالناس في جزيرة بينانج، وفيها تتجاوز فعاليات ليلة رأس السنة مشاهدة الألعاب النارية وأبواق السيارات، ليرتاد الناس النوادي الليلية الصاخبة التي تحيي هذه الليلة وغيرها من الليالي حتى الفجر.
وفي بينانج، مثلما في ماليزيا ككل، خليط غريبٌ عجيبٌ من البشر، تغلب عليهم الملامح الآسيوية، ولو كنت تزور ماليزيا قادما من البحرين أو إحدى الدول الخليجية، فستكتشف أنك طويل، وسمين، وأبيض البشرة، وأنك تمتلك أوسع عينين في الدنيا!
الناس هنا أعراق، وأديان. غير أن الدين الإسلامي هو الدين الغالب على سكان ماليزيا. هناك الماليزيون الأصليون، وهم ذوو جذور ماليزية، وتعرفهم ببشرتهم ذات السمرة المتوسطة، وملامحهم القريبة من الملامح الصينية. وغالبيتهم من المسلمين. أما الماليزيون ذوو الأصول الصينية فهم كثرٌ أيضا، وغالبيتهم بوذيون أو مسيحيون، ولا داعي لبذل الكثير من الجهد للتعرف عليهم. يكفي أن ترى العيون المشروطة والبشرة البيضاء والشعر الأسود الناعم والقامات القصيرة جدا - التي تشعرك بأنك عملاق - لتعرف أن هذا الشخص الذي تنظر إليه من أصل صيني.
وهناك ذوو الأصول الهندية، وبعضهم مسلم، أو مسيحي، وغالبيتهم من الهندوس. وأصول الهنود هنا من منطقة جنوب الهند «التاميل» إذ يملك الهنود ملامح مميزة تعرفهم ببشرتهم السمراء الغامقة.
وفي ماليزيا، تعايش كل هذه الاعراق في وئام ومحبة. ويقول كثير من أهالي البلد إنه قلما تحدث مشكلات بين الناس بسبب الدين. وقد ركّزت الحكومة على الطابع الإسلامي في البلد، لكنها لم تغفل الأديان الأخرى، فأصبح الناس يعيشون معا في وئام، ومثلما يعطلون في عيد الفطر والأضحى رسميا، فهم يعطلون أيضا في «الكريسماس» ورأس السنة الصينية. وعلى رغم أن العطلة الأسبوعية الرسمية هي الأحد، ونصف يوم السبت، إلا أن يوم الجمعة أيضا غالبا ما يدوام فيه الناس إلى منتصف النهار أي إلى ما قبل صلاة الجمعة، وهو أمر يدعو للحسد أحيانا إذ يتساءل المرء كم من الإجازات يعطل الماليزيون؟
تشتهر بينانج بمدينة جورج تاون، وهي عاصمة ولاية بينانج السياسية ومركزها التجاري والتعليمي والاجتماعي. وسميت على اسم الملك البريطاني جورج الثالث مثلما هي الكثير من المدن حول العالم والتي تحمل الاسم نفسه.
وتحوّلت بينانج من أول محطة تجارية بريطانية في الشرق الأقصى العام 1786 إلى مدينة تجمع بين الطابع الشرقي والغربي، فمن المباني الحديثة والتماثيل والعمارات، إلى البيوت التقليدية ذات الطابع الهندي أو الصيني القديم، تقف كلها جنبا إلى جنب في مدينة جورج تاون التي تتوسط الجزيرة.
ومازال أهالي المدينة يحتفظون بعاداتهم وتقاليدهم بشكلٍ يذكّرك بأصالة الشرق التي لا تفقد روحها حتى لو خرجت من موطنها الأصلي. ففي المدينة أحياء هندية بكاملها، أو صينية بكاملها، بمطاعمها وبيوتها وملامح أهلها وأحاديثهم ولغتهم التي يتحدثون بها. لم يتغير فيها شيء، بل تجد الشارع الهندي يجاور الصيني وقرينه الماليزي بانسجام واضح.
ولو سرت في جزيرة بينانج يوما قد تفكر بأنك تسير في غابة، نعم، غابة هي هذه المدينة، بخضرتها التي تمتد على مد البصر، وبأشجارها الكثيفة ومرتفعاتها، بحرارة جوها المتواصلة على مدار العام ، وبالأمطار التي لا تتوقف إلا لتتساقط من جديد. وبالكمية الهائلة من الحشرات والحيوانات والطيور التي تسرح وتمرح بين الأشجار، وتصادفك وأنت تسير أو تنظر إلى أعلى إحدى الشجيرات، أو تسمع صوتها من بعيد أو قريب.
وتشعر أيضا بألفةٍ بين الناس والحيوانات هنا. على رغم أن هذه الحشرات بالنسبة إلى كثير منا في البحرين مرعبة، وعلى رغم أن مشاهدة أحد أنواع الزواحف الذي يشبه التمساح شكلا ولكن يصغره حجما يسير هكذا بين الأشجار.. والناس قد تعتبر كارثة وطنية في البحرين يجب أن تتخذ لها الاحتياطات الأمنية المشددة، على رغم ذلك كله، فلا تجد أي خوف أو رعب من أي شخص عندما يصادف أحدٌ هذه الحيوانات أو الحشرات.
وفي الوقت الذي أقفز فيه أنا بين فينة وأخرى وأنا سائرة في بينانج وأرهف سمعي لأي صوت في الطرقات أو الممرات أو الشوارع، لأنه ربما يعني وجود أحد هذه الكائنات الحية التي لا أحبها، ولا اعتقد أنها تحبني!... في هذا الوقت نفسه يسير جميع الماليزيين على اختلاف أعراقهم وأصولهم غير عابئين بما يسير إلى جانبهم على الأرض، أو ما يطير فوق رؤوسهم، أو ما يزحف على الجدار المقابل لهم. لقد انسجموا بشكل عجيب مع البيئة المحيطة بهم، فلا معكر لهذا الانسجام، حتى ولا وجود مخلوق غريب مثلي يفزع من الحشرات والحيوانات والزواحف..
العدد 497 - الخميس 15 يناير 2004م الموافق 22 ذي القعدة 1424هـ