تتحدث وكالات الأنباء عنه كل يوم وتشيع أنه يقف وراء مظاهرات الاحتجاج التي يقوم بها الشيعة العراقيون منذ أيام طلبا لإجراء انتخابات حرة. إنها الصور التي تذكرنا بالثورة التي سبقت قيام الجمهورية الإسلامية في إيران في العام 1979. لكن الفارق أن الزعيم الديني الإيراني الذي تحدى الشاه رضا بهلوي وأسقط نظامه، كان حاضرا على العكس تماما من آية الله السيدعلي السيستاني الذي يرفع مؤيدوه صوره بينما لا يسمع عنه تصريحات ولا يدلي بمقابلات صحافية. هل هذا جزء من استراتيجيته؟ يعرف العالم السيستاني من خلال صوره التي يحملها المتظاهرون وفي القريب تكون حلت مكان صور الرئيس العراقي السابق صدام حسين في محلات الحلاقة والمقاهي.
وقد أثار الذعر في نفس بول بريمر حين قصده قبل أسبوع للفوز بتأييده لمشروع قيام مجالس محلية بدلا من إجراء انتخابات حرة في الوقت الجاري، ورفض السيستاني لقاء بريمر الذي اضطر إلى السفر لواشنطن للأخذ بنصائح الإدارة التي تخشى أن يكون غزو العراق سببا في ظهور خميني جديد لكن هذه المرة في العراق. لأول مرة منذ غزو العراق عقد بوش اجتماعا مغلقا مع وزيري الخارجية والدفاع ومستشارته للأمن القومي وبريمر لبحث الوضع في العراق أو إذا صح التعبير تدارس المواجهة القادمة مع السيستاني وجيش الأتباع. ولأول مرة بدأ بوش يشعر بالضغط الناتج عن حرب العراق. في حال عدم تنازله عند رغبة السيستاني بأن تجري انتخابات حرة هذا العام في العراق، ستبدأ الولايات المتحدة الشعور بخشية أن يسقط عنها السيســـــــتاني حق البقاء داخـــــل الأراضي العراقية ويطلب منها مغادرة البلاد. بدأ الأميركيون يستعيدون ذكريات صعبة حين ظهر الخميني. يعرف بريمر أن السيستاني يملك القوة الكافية لتحقيق حلم شيعة العراق بقيام دولة خاصة بهم إلى جانب دولة كردية في الشمال وترك بغداد للسنة. وأن السيستاني المولود في مشهد إذا صاح في النجف فإن الشيعة في أنحاء العراق يستجيبون له وهم ينتظرون الساعة للحصول على أوامر منه.
حتى اليوم يتعامل السيستاني بتحفظ بالغ مع التطورات الجارية في العراق كأنه يوحي بعدم اهتمامه في السياسة. لكن لا يخفى على المراقبين والمحللين السياسيين المتابعين لحوادث العراق أن السيستاني قد يظهر في القريب كأهم شخصية شيعية في العراق ينبغي على الأميركيين التعامل معه بحذر. يعتمد هذا كثيرا على نجاح السيستاني في حسم الزعامة لصالحه وتحقيق الغلبة على منافسه الذي يصغره سنا مقتدى الصدر. والأخير صاحب نفوذ واسع بين شيعة العراق ويخضع لمراقبة مكثفة من قبل الأميركيين بالذات لاعتقادهم أنه من الصعب التعامل معه بسبب صلابته.
يبدو أن الأميركيين أساءوا فهم السيستاني. فقد كتبت صحيفة «The Mercury News» الصادرة في كاليفورنيا قبل أسابيع قليلة أن السيستاني يحبذ الفصل بين الدين والسياسة. لكن في الغضون يتعين على الصحيفة إعادة النظر بتحليلها بعد صدور تحذير السيستاني بدعوته الأميركيين إلى عدم المبالغة بدورهم كقوة احتلال وإثارة الفزع في نفوس المدنيين العراقيين من خلال حملات التفتيش والمداهمة المهينة لكرامة المواطنين المحليين. لا أحد في واشنطن يعرف ما إذا كان تصريح السيستاني عبارة عن تحذير أو نصيحة. كما يملك السيستاني القدرة على إصدار فتوى كوسيلة للضغط على الأميركيين وأن يحرم على الشيعة تأييد مجلس الحكم المؤقت الذي شكله الأميركيون. لم ينس السيستاني كيف ترك الأميركيون الشيعة وحيدين في حرب الخليج العام 1990/1991 حين قاموا بانتفاضة ضد نظام صدام. ويبدو أن السيستاني تعلم الدرس جيدا مثلما تعلم الاعتماد على النفس وعدم الثقة بالأميركيين.
آية الله السيدعلي السيستاني يحتل مرتبة أعلى من مقتدى الصدر، فهو من الناحية الدينية من أبرز الزعماء الدينيين الشيعة وله شعبية واسعة ليس فقط داخل العراق. إن ظهور السيستاني ومقتدى الصدر يعود دون شك إلى الغياب المفاجئ للزعيم الشيعي آية الله محمد باقر الحكيم الذي اغتيل بعد وقت قصير على عودته من المنفى الإيراني إلى العراق. وقد أثار اغتياله حزنا عميقا في نفوس الشيعة الذين سعوا على الفور إلى سد الثغرة التي خلفها غياب الرجل الذي كان بوسعه توحيد شيعة العراق وراءه. ولاشك أن السيستاني أبرز المرشحين لخلافة محمد باقر الحكيم هذا على الأقل ما يؤكده اهتمام وسائل الإعلام العالمية بالاستراتيجية التي يتبعها والتي تكشف أن الرجل يعرف تماما ماذا يريد.
جاء الأميركيون إلى العراق لهدف تغيير نظام الحكم فيه وإحلال الديمقراطية وإجراء انتخابات حرة ينشأ عنها تشكيل حكومة عراقية شرعية تعمل في بناء نظام جديد في هذا البلد الذي قال الأميركيون إنه سيكون نموذجا لسائر دول المنطقة. تمت إزاحة صدام عن السلطة بسهولة لم يتوقعها المراقبون لكن هل خطر على بال أحد أن بناء نظام جديد في العراق سينهك القوة العظمى، الولايات المتحدة الأميركية؟ بالتأكيد لا. في الوقت الجاري لا توحي الإدارة الأميركية أنها تؤيد إجراء انتخابات في العراق وتحبذ التعاون مع مجلس الحكم المؤقت الذي لا يحظى بتأييد كل العراقيين خاصة الشيعة الذين يريدون الإطاحة به ولهذا فهم يطالبون بتحقيق الديمقراطية ومعنى هذا إجراء انتخابات حرة وبأسرع وقت ممكن ولهذا ثلاثة أسباب:
أولا، رغبة السيستاني بأن تغادر قوى الاحتلال أراضي العراق بأسرع وقت.
ثانيا، الخوف من نشوء وتنامي التطرف بين فئات الشعب العراقي. كلما طال أمد الاحتلال كلما قاد إلى تطرف بين العراقيين الذين يعتبرون وجود الاحتلال مثل شوكة في العين.
ثالثا، أن الزعيم الشيعي الكبير واثق تماما أن انتخابات حرة - صوت واحد لكل مواطن - ستضمن فوز الشيعة وسيصبحون أكبر قوة سياسية لأول مرة في العراق لأنهم يشكلون 60 في المئة من عدد سكان العراق. السيستاني رجل دين غير متطرف، أنه يحب مطالعة الكتب والغوص في الدراسات الدينية وحين وقعت الحرب أفتى بعدم معارضة الأميركيين. كان يعرف أن القوات الأميركية جاءت للقضاء على نظام اضطهد الشيعة على مر الزمن وأن فرصة ما تلوح في الأفق كي يصحح التاريخ مجراه ويعوض شيعة العراق عما فاتهم في عهد النظام السابق.
يشير اسم عائلة آية الله السيدعلي السيستاني (البالغ 73 عاما من العمر) إلى أن أصل أسرته من إيران، إذ تنحدر من سيستان الواقعة في شرق إيران. لكن هذا لا يشكل أي عائق كون الشيعة يرون أن العراق هو الوطن الأصلي لهم نظرا إلى وجود الأماكن المقدسة في كربلاء والنجف.
قبل الخميني لم يكن رجال الدين الشيعة يمارسون السياسة. وكان زعماؤهم يحملون لقب (مرجع) أي تجري استشارتهم. بعد قيام الجمهورية الإسلامية في إيران تغير هذا الوضع. نشأ حزب الله في لبنان وأصبح الخميني رمزا للشيعة في العراق أيضا. إن الخطر الذي يواجه السيستاني ليس الولايات المتحدة التي لا تحبذ إجراء انتخابات حرة في القريب في العراق لأنها تريد منع قيام جمهورية إسلامية، وإنما ينبغي على السيستاني حسب ألف حساب لمنافسه الذي يصغره سنا، مقتدى الصدر، الذي بدأ التشهير بالسيستاني ويقول إنه إيراني الأصل لا يحق له الحصول على منصب سياسي في العراق. وقد غير مقتدى الصدر اسم مدينة صدام التي تحمل منذ وقت قصير اسم مدينة الصدر... وهذه علامة على اتساع نفوذه واستعداده لعمل كل شيء دفاعا عن هذا النفوذ. النتيجة قد تكون نشوب حرب أهلية في العراق واضطرار قوى الاحتلال إلى الانسحاب تدريجيا وترك البلد في حالة فوضى تهدد أمن المنطقة برمتها وهذا لم يكن في حساب الذين وضعوا خطة الحرب
العدد 506 - السبت 24 يناير 2004م الموافق 01 ذي الحجة 1424هـ