الكثير من الأميركان تغلي دماؤهم لمجرد ذكر اسم الصحافي الساخر والموثق والقائم بالحملات، أو ما تريد ان تطلق عليه من أسماء، مايكل مور، والغريب ان كل أولئك الأشخاص نقاد أفلام. الجدل المتكرر الدائر حول مور هو انه انتهازي كثير التعظيم لنفسه يستغل الاضطرابات السياسية لاظهار نفسه.
هذه النظرة تغيرت الى حد ما بعد نجاح فيلم Roger and Me(1989) الذي انتقد فيه مور شركة جنرال موتورز لمغادرتها مدينته «فلنت» الواقعة بولاية ميتشيغين، كما انه (أي مور) أصبح وجها تلفزيونيا بارزا ومؤلفا للكثير من الكتب التي حققت مبيعات عالية، والتي كان آخرها كتابه الذي يحمل عنوان Stupid White Men الذي يسخر فيه من الفساد في البيت الأبيض. هكذا يمكننا ان نعرف ما دار في أذهان منتجي الأفلام التوثيقية المستقلين المحترفين حين وجدوا ان المهرج مور هو من يتمكن من الذهاب إلى مهرجان كان ويفوز بجوائز النقاد، بينما يظلون هم في حركتهم البطيئة محصورين في المهرجانات الصغيرة.
ما يحدث في واقع الأمر هو أنه وعلى رغم أن فيلما كفيلم Bowling for Columbine مثلا جاء ليكشف بعض الحقائق البسيطة وان رؤية مور قد لا تكون حادة وقابلة للتحليل، فإن العامل الأساسي في نجاحه هو انه جاء بصورة ممتعة، إذا ما قورنت بنظرة عميقة ونافذة كتلك التي يحملها شخص مثل نعوم تشومسكي.
إن فيلم Bowling for Columbine هو تحقيق صحافي عن استحواذ هاجس استخدام الأسلحة والمسدسات في أميركا على الناس، نقطة الابتداء فيه هي المجزرة التي وقعت في مدرسة ثانوية بكولومبيا في منطقة ليتل تاون بولاية كولورادو، إذ يصور المراهقين مرتكبي الجريمة وهما يبدآن يومهما بحضور فصل من فصول تعلم كرة (البولينج). ومن هذا المشهد يبدو وكأن مور ينشر شبكة تعج بالكثير من الوجوه والشخصيات وتدور أحداثها في أماكن مختلفة لكن التصوير فيها يبدو غريبا، إذ يصبح الفيلم مشابها لبرنامج ريبلي Believe It or Not! الذي يتحدث عن انتشار استخدام السلاح بين الشعب الأميركي. يصور لنا مور أحد المصارف الذي يحاول اجتذاب المزيد من الزبائن بتقديم مسدس لكل شخص يفتح حسابا في المصرف، ويقول اعلان المصرف «المزيد من الطلقات لدولاراتك»، ثم يأخذنا لمشهد نرى فيه ميليشيا ميتشيغن الذين تدرب على ايديهم كل من تيموثي ماكفيتش وتيري نيكولاس منفذي تفجيرات اوكلاهوما، فنراهم أشخاصا اعتياديين، وليسوا همجا متوحشين، بل انهم يقومون بتصميم تقويم خاص بهم (وهنا يتضح تعقيد لا يتوقعه المشاهد من الميليشيا، فهم فخورون بانفسهم).
بعدها يلتقي مور بجيمس، شقيق نيكولاس، ويعمل مزارعا نسمعه يؤكد قائلا «انا استخدم القلم لأن القلم اقوى من السيف» ثم يضيف بصوت خشن «ولكنك يجب ان تحتفظ دائما بسيفك جاهزا»، والسيف الذي يقصده نيكولاس هو مسدس ماغنم 44، ويضيف «هناك الكثير من الغرباء». ويطيل مور الفيلم لساعتين ليصور بعض المهرجين والمجانين الكوميديين مثل المراهق الذي يحمل وجها كالخبز، وذلك المغتاظ بسبب وضعه للمرة الثانية على قائمة المشتبه بهم في عمليات التفجير، أو ذلك الذي يعترف بانه قام بصنع قنبلة نابالم سابقا ثم يعترض على الاشتباه به قائلا «لماذا يختارونني دائما؟». يبدون جميعا متطرفين ومعظمهم ينظر إلى نفسه على انه مواطن اميركي عادي يطالب ببساطة بحقوقه الدستورية (في حمل السلاح)، كما ان بعضهم يتحدث عن الواجب الدستوري.
في بعض المشاهد، تبدو مشاهدة الفيلم كالخروج في نزهة ممتعة لكنها لا تعلمنا بأي جديد. وليصور واقع الحال في كندا التي تبدو أفضل نسبيا، يأخذنا في مشاهد متتابعة تبدو مربكة للمشاهد، يصورها في منازل تورنتو بشكل عشوائي لينقل صورة لحال الأسر التي تعيش في الشمال والتي تثق بالآخرين لدرجة ان أبواب منازلهم تظل مفتوحة دائما.
وكشخص كثير الجدل فان مور متهور، ومستعد لأن يقدم ما عنده غير مكترث للصيغة التي يقدمه بها أو للصلة فيما يقدمه، كما ان ميله إلى تركيب الأفلام بطريقة كوميدية ساخرة يمكن أن يصبح بشعا في بعض الحالات، إذ يعرض بعضا من المشاهد التي تصور خطايا السياسة الأميركية الخارجية مصحوبة بعبارة «انه عالم رائع». ان استخدام مور للصور الأرشيفية الكوميدية بارع وهي تقنية قديمة استخدمت بشكل رائع في بعض أعمال فترة الثمانينات مثل عمل Atomic Café وأعمال ارشيفية اخرى ساخرة تتحدث عن سنوات ايزنهاور.
اضعف جزئية في الفيلم هي تلك التي تتحدث عن تاريخ الجنون الأميركي الحديث، إذ يعرضها مور بأسلوب رديء إذ تبدو كمشاهد مأخوذة من عمل South Park، وعلى رغم ذلك فإن مور مخرج قادر على أن يعرض الأمور بطريقة شاملة، وهو شجاع في تصوير بعض الأمور.
أسوأ ما في الفيلم هي طريقة عرضه للكثير من التعليقات الصادرة من مختلف الأشخاص والتي تكون خارج سياق الكلام، وأتصور أن مور كان يرغب في نقل فكرة كون هؤلاء الأشخاص مرهفين ولذلك ينحني لهم مجاملا، على عكس أولئك الذين يصفهم بالبلهاء والذين تنقل لنا الكاميرا شكوك مور بشأنهم، كما انه يقوم عادة باختيار اشخاص مرتبكين، يختفي من ورائهم الأشرار الحقيقيون في الادارة، لا أعرف لماذا لم يتحدى بوش أو رامسفيلد بشكل مباشر فهم سيكونون أفضل من الرؤساء التنفيذيين للشركة الذين يكونون خارج المكتب طوال الأسبوع، كما يخبرنا موظفو العلاقات العامة المغلوب على أمرهم.
أحد الأشرار الذين تحداهم بشكل مباشر هو حامل الألواح (تشارلتون هيستون) الرئيس الصوري لجمعية ناشيونال رايفل، التي أقام أعضاؤها تجمعات حاشدة في ليتل تاون بعد وقت قصير من عرض فيلم Columbine، ثم في فلنت بعد مقتل فتاة تبلغ من العمر ستة أعوام رميا بالرصاص.
أما أكثر المشاهد رعبا في فيلم مور فهو ذلك الذي نسمع فيه صرخات هيستن وهو يحمل المسدس عاليا ويصرخ «من يداي الباردتان الميتتان»، وذلك حين زاره مور في منزله إذ بدا هيستون مرتبكا في بادئ الأمر لكنه بدا معجبا بنفسه لاحقا وقال بفخر «لدينا تاريخ من العنف» ثم بدا مرتعبا وأضاف «هل تريدني ان اعتذر لسكان فلنت؟»، وعندما عرض مور صورة لكايلا رولاند نهض هيستون وبدأ يعرج.
مور أفسد لحظة مؤثرة بشدة بإشارة غبية حين ثبت الكاميرا على حائط ما، وسمح للمصور بأن يصوره وهو يقوم بتخريب الحائط، وقبعة البيس بول التي يرتديها منزلة الى الأسفل، ليبدو كمصور جغرافي سياسي اميركي يحمل كوارث أمته على كتفه.
لكن اعمق فكرة في الفيلم، على رغم غموض التحليل فيها، هي في عرض صورة للاستثمار الايديولوجي والمالي في الثقافة الأميركية، إذ تجعل هذه الثقافة الناس في حال من الخوف الدائم - سواء كان ذلك من مارلين مانسون (الذي يقوم بعمل مقابلات واقعية)، أو من أطفال المدارس لديهم، أو من الأميركان الأفارقة.
هناك الكثير من الأشياء في الفيلم التي يمكن جمعها بشكل مترابط، وهو الأمر الذي يكون مور أخفق فيه في هذا الفيلم كما أخفق في جعلنا نفكر بطريقة تحليلية، لكن هذا النوع من الحماس الاستفزازي منعش للعقل ضروري دائما، فمور قاص جوال اكثر من كونه شخص منطقي.
ان استعراض صورة البطل الشعبي في الفيلم، لها هدف جدلي طبعا، فالمزيد من الناس سيشاهدون هذا الفيلم وسيتلقون الرسالة بطريقة افضل مما لو تم تقديم الرسالة نفسها بطريقة اكثر ذكاء من قبل شخص آخر. ان فيلم Bowling for Columbine هو فوضى متغطرسة مشوشة بشكل كبير، تجعل المشاهد يضحك كثيرا ويجمد مخه، لكن خرمشة مور الفضفاضة هذه أفضل بكثير من يدي هيستون الباردة المميتة.
آخر أفلام مور لهذا العام فيلم فهرنهايت 11/9 الفيلم الوثائقي الذي ينتقد الرئيس الأميركي جورج بوش لحربه على العراق، والذي صرح مور أخيرا عن قيام كبرى نقابات صناعة السينما الأميركية بمنع جمهور الشباب الأميركي من مشاهدته.
وقالت شركتا لايونز غيت فيلمز واي اف سي فيلمز في بيان ان هيئة موشن بيكتشر اسوسيشن اوف اميركا وضعت اشارة تعني ان الذين تقل اعمارهم عن 17 عاما لا يمكنهم مشاهدة الفيلم ما لم يرافقهم احد الوالدين أو وصي.
وأكد توم ارتنبرغ مدير ليونز غينت فيلمز أن هذا التصنيف غير مبرر مؤكدا انه سيستأنف هذا القرار بسرعة قبل بدء عرض الفيلم في 25 يونيو/ حزيران الجاري في الولايات المتحدة.
من جهته قال مخرج الفيلم (مايكل مور) الذي منح السعفة الذهبية لمهرجان كان السينمائي انه من الممكن جدا مع الاسف استدعاء الكثير من المراهقين الذين تبلغ اعمارهم 15 أو 16 عاما وتجنيدهم للخدمة في العراق في السنتين المقبلتين.
وأضاف مور انهم بلغوا العمر الذي يسمح بتجنيدهم ويسمح لهم بالقتال والمجازفة بحياتهم لذلك يستحقون بالتأكيد أن يسمح لهم بمشاهدة ما يجري في العراق
العدد 653 - السبت 19 يونيو 2004م الموافق 01 جمادى الأولى 1425هـ