العدد 778 - الجمعة 22 أكتوبر 2004م الموافق 08 رمضان 1425هـ

بين أن نحارب الفقر أو نكون من القانعين!

تشرفنا بزيارة أحد رجال الدين الفضلاء قبل عامين تقريباً، وكان ذلك ضمن البرنامج الرمضاني. وحقاً ما يميز شهر رمضان المبارك انه يغدو ساحة للتلاقي مع المؤمنين ولاسيما رجال العلم. فهو فرصة للتواصل معهم ما أمكن، لأن مجالسة أهل العلم تمد الإنسان بالتوفيق والبركة بقدر ما تزوده بالعلم والمعرفة. وهذا ما أشار إليه الحديث الشريف الذي حث على مزاحمة العلماء «حتى الركب»، وهي كناية عن استحباب ملاصقة العلماء أينما وجدوا طلباً للنور والبصيرة.

كنت برفقة بعض الاخوة المؤمنين. وبعد أن أخذ كل واحد منا مكانه في المجلس بادرنا الشيخ بالتحية، ثم بدأ يتعرف، سائلاً - بعفوية تامة - عن أسمائنا ونوعية وظائفنا وعما إذا كنا مرتاحين في العمل أم لا. لم نكن نستشعر قصده من تلك الأسئلة سوى بداهتها، وبعد أن أتم أسئلته فاجأنا قائلاً: «جميل جداً أن أجدكم قانعين وراضين عن عملكم»! فسأله أحدنا: ماذا تقصد يا شيخ؟ فرد: نعم، كثيرون ممن أسألهم عن أحوالهم أراهم يتذمرون وتبدو على ملامح وجوههم علامات عدم القناعة. لذلك تبلورت لدي صورة عن غالبية الناس في مجتمعنا البحريني بأنهم لا يعيشون «القناعة». صحيح أنهم ربما يعيشون فقراً مدقعاً أحياناً أو متوسطاً أحياناً أخرى، ولكنهم في المقابل ليست لديهم «قناعة» بمعيشتهم، وهذه ظاهرة سلبية يمقتها الإسلام.

بين الفقر والقناعة...

بدت على وجوهنا علامات الحيرة أمام ما قاله ذلك العالم، لذلك بادره أحد الاخوة معترضاً: ولكن يا فضيلة الشيخ، بعض الأحوال المزرية تفرض على أولئك الناس التذمر منها. ثم تابع آخر: هل يعني أن نتوقف عن محاربة الفقر ونكتفي بالقناعة؟! فرد الشيخ بسؤال آخر: وهل تعني محاربتنا للفقر أن لا نكون قنوعين؟ ألم يكن علياً (ع) أكبر المحاربين للفقر، أما كان أباً حنوناً للفقراء؟ ألم يملك في يوم من الأيام كرسي الخلافة والسلطة على بيت مال المسلمين؟ ماذا كان يلبس وماذا كان يأكل وأين كان يسكن؟ هذه المفارقات التي إلى الآن لم تستطع عقلية بعض المؤمنين إدراكها واستيعابها.

صمتنا وكأن على رؤوسنا الطير. ثم أردف: ليس عيباً أن نطالب برفع العوز والحرمان عن المجتمع، وليس نقصاً أن نحارب الفقر وتفشي الفساد بصوره، بل هذا ما ينبغي على المؤمنين أن يتصدوا له، ولكن ما أتحدث عنه شيء آخر. إنني أستنكر النماذج الخاملة من الناس الذين لا يملكون النَّفَس الطويل في الصبر على قساوة العيش، فتراهم بدلاً من السعى إلى الرزق يتذمرون في كل مجلس ويشتكون من ضنك المعيشة للناس، في الوقت الذي تراهم يعيشون فيه حال إسراف وتبذير غير منظم. فراتب أحدهم أكثر بكثير من جاره بينما أولاده وأفراد عائلته أقل من عائلة جاره، ولكنه يبدي لك مأساته كلما سألته عن حاله على عكس جاره دائم الشكر والحمد الراضي بما قدره له الله عز وجل.

«اقنع تشبع»... حكمة الجار الفقير

على رغم ما قاله الشيخ فإن الصورة لم تكن واضحة حينها لبعض الحاضرين في المجلس. التفت الشيخ إلى ابنه وقال: صُب للجماعة شاي يا ولدي. ثم أردف: سأروي لكم هذه القصة التي حدثت معي...

يقول الشيخ: «كان لي جار فقير يأتيني في كل شهر ليتسلم الخمس، إذ إنه كان سيداً من سلالة الرسول (ص). فجأة انقطع عني لأشهر طويلة ولم يعد يأتي لتسلم الخمس، فرحت أسأل: ما الذي منعه من المجيء؟ لعله عرض له سوء - لا قدر الله - وبعد مدة تفاجأت عندما جاء ليزورني وقد تغيرت ملامحه وتبدل هندامه فأصبح أكثر رتابة من ذي قبل. فسألته عن سبب امتناعه عن تسلم الخمس طوال الأشهر الماضية، فرد قائلاً: يا شيخ، قلت في نفسي إلى متى سأبقى أعيش على أموال الخمس؟ ومادامت لدي مساحة فارغة في فناء المنزل فلم لا أحرثها وأزرعها ببعض الخضراوات ثم أقتات من حصادها؟ وفعلاً شجعتني زوجتي على ذلك، فقمت شيئاً فشيئاً بزرع بعض بذور الطماطم والبقل والرويد كما غرست فرخ لوز وكنار، وهكذا بدأت في سقي المزرعة الصغيرة، وعندما يحين موعد الحصاد أخرج به أمام البيت وابيعه ببضعة روبيات أقتات منها أنا وعيالي. وها أنا والحمدلله في نعمة وعافية، ودع الخمس لغيري من الفقراء العاجزين.

يقول الشيخ: هذه القصة أثرت فيّ كثيراً فسألت نفسي: ماذا لو كان غالبية الناس بهذه القناعة والرضا؟ ألن يكون لدينا ذلك المجتمع المؤمن القانع بما رزقه ربه؟ إذاً، صحيح أن القناعة كنز لا يفنى. ولكن دعنا أولاً نحصل على هذا الكنز وبعد ذلك نصونه من الفناء. ولعل هذا ما يعنيه الحديث الشريف

العدد 778 - الجمعة 22 أكتوبر 2004م الموافق 08 رمضان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً