العدد 843 - الأحد 26 ديسمبر 2004م الموافق 14 ذي القعدة 1425هـ

شريحة المزارعين المنسية... من يلتفت إليها؟!

قضوا شبابهم يتمرغون في التراب من أجل «دريهمات»

أناس تقضم الأيام أعمارهم، ولا يعرفون طعما للراحة، ولا يدخل في قاموس حياتهم معنى للإجازة... ولا تطرق بابهم (مكرمات!!). ولدوا حتى يحرثوا في التراب من أجل أن يعيلوا أسرهم، ثم ليعطوا كبير الغلة لمن لا يملكون، يعطوها لذلك المالك الذي فرض عليهم أتاوة عالية لا يراعي فيها ما ينتجون، فلا يهم إن كان الناتج صفرا أو أقل من الصفر، فهو ينظر إلى غلته نهاية العام... هذه الأرض التي قضى أقل واحد منهم اليوم ثلاثين عاما وهو يقلبها بمسحاته صبح مساء، وتلطخت يداه وأقدامه بل أيام حياته كلها بتربتها وطينتها صيفا وشتاء.

مزارعون هم، فلاحون طبعا، كادحون لا ينظر إليهم أحد بشفقة، ولا يلتفت إليهم برحمة، طلقتهم الدولة من قيمومتها، وأبعدتهم عن كنفها منذ زمن. بمخاض عسير ولدت لهم جمعية من أقدم الجمعيات حتى ترعى مصالحهم وتعينهم فأصبحت مباني دارسة وأطلالا ينعى فيها الغربان، فغدا الراعي يحتاج إلى رعاية!! من يعرف اليوم أن هناك جمعية باسم (جمعية البحرين الزراعية) تأسست منذ ما يقارب العقدين؟!

وعند مراجعة المصادر التاريخية نلحظ بجلاء أن أبناء هذه الأرض مارسوا أبرز نوعين من الحرف وهما: الصيد والزراعة، بل ربما انحصر الاسترزاق لجل أهل البحرين لأعوام متطاولة عليهما. أما استخراج اللؤلؤ فقد زخرت واشتهرت به البحرين لعقود، وللؤلؤ البحريني خصائص فريدة ومميزات خصوصاً كما تروي سير أهل الاختصاص. وبعد أن انحسرت هذه المهنة وشهدت تراجعا واضحا إثر أسباب كثيرة لا مجال لذكرها هنا، انصرف الناس لصيد الأسماك فارتبطت حياة المواطن البحريني بالبحر رزقا واستمتاعا. وحين تجول ببصرك تجد أن جميع مناطق البحرين التي تأهل بالسكان منذ فجر التاريخ تلاصق البحر. وانصرف جزء منهم إلى الزراعة، أما النفر اليسير فهو الذي مارس التجارة. وبقيت حال المعاش للناس على هذا المنوال حتى سنة استخراج النفط 1932م إذ شهدت تحولات واسعة على بنية المجتمع، إذ استقطبت هذه الصناعة الجديدة مجموعة لا بأس بها من المزارعين والعمال وذوي الحرف اليدوية الصغيرة.

أهمية هذه اللمحة التاريخية تكمن في استعراض الدور الذي مثلته الزراعة في تاريخ البحرين، إذ لعبت دورا في دعم الأسواق المحلية بالأصناف المختلفة من المنتجات قبل توسع حركة الاستيراد. وقد حقق المزارعون في بعض السنوات ريعا هائلا جراء ارتفاع أسعار بعض المحاصيل لأسباب اقتصادية تميزت بها تلك المرحلة. إلا أن هذه المسألة لم تستمر، فقد شهدت الزراعة حال انكفاء واضحة منذ أواخر الثمانينات، وما خفف الأمر هو أن الوفر المتحقق من السنوات السابقة مع بعض الرعاية من قبل الدولة ساهما بشكل أو بآخر في أن يستمر هؤلاء على رأس عملهم مع شحة الأعمال، وعدم تعلمهم حرفة غيرها، الأمر الذي حصر الخيار بالنسبة إليهم في البقاء لممارسة هذه المهنة على رغم شقائها والمجهود الكبير الذي يبذل في مقابل عائد لا يستحق كل هذا. وما زاد الطين بلة هو تخلي الدولة عن فتات الرعاية التي كانت تقدمها إلى المزارعين من خلال توفير مكائن الحرث وبعض الحبوب والمبيدات بأسعار مدعومة وتركهم هكذا لمواجهة مصيرهم الذي بدا أشد قسوة. والأخطر من ذلك كله هو عدم تقييد حركة الاستيراد من ذات المحاصيل التي ينتجونها لاسيما في ظل ارتفاع ملوحة الأرض بشكل ملفت خلال السنوات السابقة ما أدخلهم في أتون منافسة غير عادلة أضعفت البقية الباقية من إنتاجهم، وأنهكت قواهم، وبالنتيجة تدهور وضعهم المادي، وانعكس ذلك على أسرهم. إذ تعاني هذه الشريحة اليوم من شظف العيش ما اضطر الكثير منهم إلى مغادرة هذه المهنة والعمل في مهن متدنية جدا بغية تحصيل الأجر الثابت الذي يوفر لأسرهم أقل العيش فهو بجميع الأحوال خير من عدمه.

وفي ظل هذا الضغط الشديد تحمل من بقي منهم بمرارة شظف العيش وقساوة أنياب الدنيا إلا أنهم إلى اليوم لايزالون لا يملكون ما أفنوا زهرة أعمارهم فيه. فمعظم - إن لم يكن كل - الأراضي التي تزرع اليوم هي أراض مستأجرة يملكها متنفذون، ويدفع المزارعون لهم سنويا مبلغا كبيرا لا يقوى عليه ذوو الدخول العالية.

تزداد معاناة هؤلاء المزارعين مع قدوم كل شتاء، ففي وقت يأملون أن يحقق لهم هذا الموسم المعروف بموسم (الطماطم) عائدا يعينهم على بقية المواسم يفاجأون أن للطبيعة قسوتها عليهم أيضا، فقد أدت الأمطار المستمرة التي شهدتها البلاد منذ مطلع شوال (منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني) إلى تدهور حال الموسم لديهم إذ قضت وبشكل شبه تام على ما تعبوا أنفسهم في الإعداد له طوال الأشهر الثلاثة السابقة، وبدوا كمن يستيقظ من صدمة حين صحوا على الأمل المعقود وهو يتبخر.

هم في حاجة ماسة إلى أن توليهم وزارة الزراعة والبلديات بعض اهتمامها، وألا يكون انصرافها فقط إلى تجميل الشوارع والحدائق على رغم أهميته وتنسى هؤلاء البشر وهم الأهم.

وحين يقرأ هؤلاء أن وزير الزراعة يعتمد موازنة قيمتها مئة ألف دينار لإحياء عين أم شعوم فإن غرابتهم تزداد ويسألون: أيها أهم أن يتوجه هذا المبلغ لإحياء شريحة مهمة هي في حاجة ماسة إليه وهم أحد أركان البنية الاقتصادية مهما صغر حجمهم، أم لعين درست؟ ما ضر لو تأخر إحياؤها إن كان لذلك قيمة تذكر؟!

فعلا المسألة غريبة، ليس فقط لهؤلاء وإنما لجميع الناس. فهل تترفق الجهات المعنية بمصير هؤلاء أم أن دورهم في (الإصلاح/الإحياء) لم يحن بعد؟

(الاسم والعنوان لدى المحرر

العدد 843 - الأحد 26 ديسمبر 2004م الموافق 14 ذي القعدة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً