تختزل الآثار في أية دولة من الدول تاريخ وحضارة الأمة، وتشكل ملمحا مهما من ملامح ثقافتها. غير أن الأمر في البحرين يأخذ منحى مختلفا، فقبور عالي الأثرية التي توجد ضمن أكبر مقبرة تاريخية في العالم بدأت الجرافات حملة قاسية لإزالتها، حتى اختفى جزء كبير منها، وأقيمت فوق أرضها فلل فاخرة لذوي النفوذ في الدولة.
"الوسط" تجولت في المنطقة برفقة عدد من مواطني قرية عالي وبحضور النائب البرلماني عبدالنبي سلمان، لاستطلاع الوضع عن كثب.
يقول المواطن محمد علي آل عباس: غريب ما يحدث في مقابر عالي فبدلا من الاستفادة منها واستثمارها في المجال السياحي لتعود بالمنفعة على المجتمع ككل، يتم تدميرها بأيدي البشر، إذ يأتي العمال بجرافاتهم في المساء تحت ستار الظلام ويعمدون إلى إزالة المقابر لإعداد وتهيئة الأرض للبناء عليها، وبعــد إزالة القبــــور الأثريــة وزعــت الأراضي على أصحاب النفوذ في الدولة.
ويطالب آل عباس "بتشكيل لجنة مختصة في التحقيق في التجاوزات والانتهاكات التي تتعرض لها القبور الأثرية على غرار لجنة التحقيق في التجاوزات التي يتعرض لها خليج توبلي"، مؤكدا "ضرورة وجود لجنة تحقيق عامة تحقق في تدمير آثار البلاد وطمس تاريخها وتراثها، ويجب أن تتطرق هذه اللجنة للتحقيق في كل الانتهاكات التي تتعرض لها المواقع الأثرية والطبيعية في البحرين".
ويرى بأن "أنظار المجتمع تتوجه نحو التجاوزات والانتهاكات التي يتعرض لها خليج توبلي، فيما يغيب عن المجتمع الانتهاكات التي تتعرض لها المواقع الأخرى ومنها على سبيل المثال مقابر عالي الأثرية".
جريمة في حق التاريخ
أحد المواطنين الذي رافقوا "الوسط" في الجولة سيدمصطفى التمار يؤكد أن "التعدي على الآثار يعد جريمة في حق التاريخ الإنساني، فالآثار ملك للإنسانية جمعاء، ويجب محاسبة من يتعدى عليها"، ويمضي في حديثه قائلا: "كثيرا ما نقرأ في الصحافة المحلية على لسان المسئولين عن وجود خطط لتطوير مقابر عالي، غير أن الواقع مخالف لكل تلك التصريحات فعملية إزالة القبور مستمرة". ويذكر التمار أن "أراضي مقابر عالي قدمت إلى متنفذين في الدولة بالمجان، فيما يبقى المواطن من دون شيء".
ويمسك عباس الوادي بخيط الحديث ليقول: "تعتبر مقابر عالي من أقدم المقابر التاريخية الموجودة في العالم، غير أن التوسع العمراني غير المدروس أدى إلى تقليل مساحتها وقضى على عدد كبير منها، ثم ان ديننا الحنيف يمنع التعدي على المقابر، إذ إن للأموات حرمتهم، ولا يجوز التعدي عليها"، وبحسب الوادي فقد "تحدث المسئولون لأكثر من مرة عن وجود خطة لتحويل قبور عالي الأثرية إلى محمية طبيعية، وعلى رغم ذلك نجد أن الزحف العمراني يأتي عليها باستمرار، فاختفت الكثير من القبور مع الوقت".
شارع يخترق المقبرة
ويجري العمل حاليا في موقع قبور عالي الأثرية على إقامة شارع يخترق قبور عالي من أجل ربط شارع 38 في عالي مع شارع خليفة بن سلمان. كما تم تغيير اسم المنطقة من عالي إلى الرفاع "حي جري الشيخ". ومن جانبه يعلق سلمان: قبل التغيير الوزاري الأخير، تحدثت مع وزير الإعلام السابق نبيل الحمر عن الشارع الذي يجري العمل على إنجازه والذي يربط شارع 38 في عالي مع شارع خليفة بن سلمان، وقد نفى الوزير إنشاء مثل هذا الشارع . وتساءل سلمان: "على أي أساس تم تغيير اسم المنطقة، ولماذا تغير الاسم من عالي إلى الرفاع؟". ويضيف النائب البرلماني: "الجرافات تثبت عكس ما ذكره وزير الإعلام السابق، ويبدو أن الدولة ليس لديها أي اهتمام بالآثار، فبدلا من الاهتمام بها والمحافظة عليها تعمد إلى إزالتها وتبني عليها الفلل للمتنفذين في الدولة"، مضيفا "قمنا بعدة زيارات إلى إدارة الآثار لطرح القضية على المسئولين في الإدارة، وقد أطلعنا المسئولون على خرائط تؤكد أن القبور الأثرية لن تمس، كما طرح الأمر للنقاش في مجلس النواب على شكل أسئلة ومناقشات، وكل الذي حصلنا عليه من الوزير في السابق هو مجرد وعود، غير أن الموجود على أرض الواقع يكشف العكس".
لجنة أهلية
وقرر الأهالي خلال حديثهم لـ "الوسط" تشكيل لجنة أهلية تختص في التحرك للمحافظة على قبور عالي الأثرية، على أن تقوم بتقديم شكوى إلى منظمة اليونيسكو بخصوص هذه الانتهاكات، وأيد النائب البرلماني عبدالنبي سلمان تشكيل مثل هذه اللجنة، مبديا استعداده للتعاون معها في ضوء عدم تحرك البرلمان لايجاد حل للقضية، على حد قوله.
خطاب المجلس البلدي
"توالت الحضارات العريقة على أرض البحرين فنقشت بصماتها وتركت آثارها شاهدة على ما تتمتع به هذه الأرض الطيبة من تراث ثقافي وحضاري، وطبعت هذه الآثار كل حقبة بطابعها المميز مسجلة تاريخا خالدا يجب أن يبقى مرآة لنا ولأجيالنا المقبلة، ولكن ما يحز في النفس أننا نرى حضارتنا وآثارها تتحطم تحت أقدامنا وأمام نظرنا، فالجرافات مسحت الكثير من الجبال والتلال التي كانت تحوي الكثير من الشواهد والآثار، والمتنفذون سعوا إلى تملك ما أمكن من أراض أثرية، ولم يبق منها إلا القليل الذي يخشى أن يضيع وسط طمع المتربصين".
كان هذا نص من خطاب رفعه ممثل الدائرة الثانية في المجلس البلدي للمنطقة الوسطى السيدعبدالله مجيد العالي إلى رئيس المجلس إبراهيم حسين بتاريخ 5 ديسمبر/ كانون الثاني من العام .2004
وطالب العالي في خطابه إلى المجلس البلدي "الإسراع في طلب مخططـــات الأراضي الأثرية من الجهات المختصة، والتعاون معها من أجل تسويرها وحمايتها ووضع برنامج عملي يمكن الدارسين والباحثين من الاستفادة من آثارها في مواقعها الحقيقية عن طريق عمل متحف ومعرض دائم وإحاطته بمقومات الجذب السياحي من أماكن ثقافية وعلمية واجتماعية وترفيهية".
وقال ممثل الدائرة الثانية في المجلس البلدي للمنطقة الوسطى في حديثه إلى "الوسط" إن "المجلس البلدي توقف عن مناقشة قضية مقابر عالي بسبب الوعود التي أطلقها المسئولون في وزارة الإعلام لتطوير المقابر".
وقبل فترة من رفع هذا الخطاب إلى المجلس البلدي، راجع العالي إدارة الآثار وعلم من المسئولين بأنهم يسعون لعمل متحف طبيعي في منطقة عالي، كما يوجد مخطط لتطوير المنطقة على ثلاث مراحل، تتضمن المرحلة الأولى تسوير التلال الأثرية، أما الثانية فتتضمن إقامة متاحف مفتوحة، فيما لم تتبين ملامح المرحلة الثالثة، على حد قوله.
ويضيف عضو المجلس البلدي "اكتشفت في فترة لاحقة بأن الأراضي التي توجد بها التلال الأثرية تم تمليكها فعلا لمتنفذين في الدولة، وبالتالي تعد منطقة قبور عالي منقطة مهتوكة، فقد هتكت حرمة القبور الموجودة فيها عندما تم تمليكها وتحويلها إلى أملاك خاصة".
وعود وزارة الإعلام
وكان وكيل وزارة الإعلام محمد يوسف المحمود ذكر خلال اجتماعه مع رئيس وأعضاء جمعية البحرين لوكلاء السفر والسياحة في شهر أغسطس/ آب من العام الماضي أن الوزارة تدرس إعادة ترميم مقابر عالي وتحويلها إلى معلم سياحي يضاهي في حلته الجديدة المعالم السياحية الدولية.
وكانت وزارة الإعلام وافقت خلال اجتماع مع لجنة الخدمات بمجلس النواب في شهر ديسمبر/ كانون الثاني من العام الماضي على اقتراح يتضمن تحويل قبور عالي الأثرية إلى متحف طبيعي مفتوح، على أن يتم تنفيذه خلال هذا العام.
هذا وتشتهر منطقة عالي ومدينة حمد بوجود عدد كبير من المقابر الأثرية المقببة التي تشغل مساحة كبيرة من أرض جزيرة البحرين، ويقدر عددها بعشرات الألوف، وهناك آلاف من هذه المقابر في قرى الجنبية والقرية وسار في الجهة الشمالية الغربية، أما قرية الحجر - الواقعة في شرق البديع -فإن قبورها محفورة في الصخور وبعضها مبني.
وبحسب المختصين في علم الآثار فقد بنيت هذه المقابر بقطع من الأحجار، وتضم كل منها غرفة دفن واحدة أو غرفتين في مستوى واحد إحداهما فوق الأخرى في الغالب، ويتكون سقف المقبرة من ألواح مصنوعة من الصخور، وبعد إغلاق المقبرة على صاحبها - الذي يدفن في وضع القرفصاء "يشبه شكل الجنين في الرحم" - كان يهال التراب على الصخور حتى تتخذ شكل التلال، وتقع أبواب المقابر في الجهة الغربية.
وبدأت أعمال الحفر والتنقيب في العام ،1879 واستطاعت بعثات التنقيب تمييز أربعة أنواع من تلال المقابر ينفرد كل نوع عن الآخر بمزايا هندسية ومعمارية من ناحية تصميم التل والمدفن، بالإضافة إلى اختلاف المواد التي توضع مع الميت.
وتتكون التلال من أربعة أنواع هي: التلال المبكرة وهي من أقدم الأنواع وتعود إلى الفترة بين 2500 قبل الميلاد إلى 2300 قبل الميلاد.
النوع الثاني هي التلال الانتقالية التي تعود إلى الفترة بين 2300 قبل الميلاد إلى 2000 قبل الميلاد. أما النوع الثالث فهي التلال المتأخرة "2000 قبل الميلاد - 1400 قبل الميلاد". والنوع الأخير هي تلال فترة تايلوس "300 قبل الميلاد - 200 قبل الميلاد"
العدد 919 - السبت 12 مارس 2005م الموافق 01 صفر 1426هـ