قال تعالى في محكم كتابه الكريم "وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، قالوا سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم" "البقرة: ،30 31".
لعل العلم، وهو من الصفات الذاتية لله سبحانه وتعالى من التحديات الكبرى عندما يتجه نحو الكمال وهو يقينا يوجد في أتم كماله عنده سبحانه وتعالى وهو ما نعتقده حقا أو لا نكون من الموحدين، كما أن الآية المباركة أيضا تضعنا في السياق نفسه إذ كان التحدي للملائكة بعد إعلامهم بخلق آدم أن يسألوا عن معرفة لا قبل لهم بها من دون الله فكان تميز آدم عليه السلام بهذه المعرفة التي أعطاها الله له فكان البشر يتميزون بها على سائر المخلوقات، "وللجن نظريات لسنا بشأن الخوض في علمهم ومقدرتهم".
هذا التميز - المعرفة - من الفكر الإسلامي الأصيل هو عينه ما نشاهده اليوم في عالمنا المعاصر وما يطلق عليه من تحديات اقتصادات المعرفة والعولمة والتقنية الحديثة، فكلها مرتبطة كما في قصة سيدنا آدم بالمعرفة المتميزة التي تفضل البعض على الآخر الفاقد لها، تحديات تطالنا في كل مفردة من حياتنا الصغيرة والكبيرة، على مستوى الفرد الصغير في طفولته، تلمذته، تحصيله العلمي ومستقبله الوظيفي، وحياة المجتمعات والدول في قضايا السياسة والاقتصاد والاجتماع والتعليم والصحة إلخ.
فالمجتمعات والدول التي تبني استراتيجياتها على المعرفة وتكون محورها الأساسي حول التنمية الشاملة المستدامة للإنسان يمكنها أن تنطلق وتأخذ مكانتها الريادية بين الأمم، وكذلك الأفراد يتميزون في كل شيء وموقع بما يمتلكون من معرفة ومدى استفادتهم من هذه المعرفة، فالمعرفة ليست كما هائلا من المعلومات أو المعطيات فقط، بل هي مخزون تراكمي من المعلومات والتجارب وعمليات القرار لما يناسب كل موقف وموقع، بل أكثر من ذلك ليس مجالنا التفصيل.
لذلك نرى أن المؤسسات الناجحة ومستمرة النجاح هي التي تتبنى أحدث وسائل التقنية الحديثة في الإنتاج والتحليل والمشاركة في المعرفة، وعلى أساس استراتيجيتها وخياراتها وتوجهاتها، وهل أكبر مصداق من التمثيل بالمؤسسات الربحية وهي التي تدير رحى كل شيء تقريبا في العالم المادي سياسيا كان أم ثقافيا شئنا أم أبينا.
وللمعرفة أدوات ومنها وسائل الاتصال والتقنية الحديثة والتي تتحول شيئا فشيئا لتندمج بحيث لا نستطيع وضع حد بأن هذه تقنية اتصال أو معلومات، وتلعب شبكة المعلومات العنكبوتية - الإنترنت - محورا أساسيا ينافسها فيه الاتصالات المتنقلة في نقل المعرفة وكمش العالم في بوتقة صغيرة منزوعة الحدود الطبيعية والجيوسياسية.
هذا ما يحتم على الأمم والدول والشعوب والمؤسسات والمجتمعات والأسر والأفراد، كل بحسب موقعه، من الاهتمام بما ميز الله به نبيه آدم وميزنا به، ولكن سبقنا إليه من هم بعيدون عن الاستخلاف الآلهي ليحولوه إلى سلاح فتاك ليقضي على كل ما هو خير لا يخدم مصالحهم، فنحن نستخدمه "استهلاك" في مضرتنا واشباع غرائزنا، وهم يستخدمونه "إنتاج" في ما ينفعهم ويمكنهم من مزيد من التميز والسيطرة علينا! فمتى يأتي دورنا؟!
خليل المرزوق
العدد 1092 - الخميس 01 سبتمبر 2005م الموافق 27 رجب 1426هـ