العدد 1127 - الخميس 06 أكتوبر 2005م الموافق 03 رمضان 1426هـ

البعد الروحي للصوم

أما البعد الروحي فلأن الصائم يحس باطمئنان وهدوء، وخصوصاً نتيجة شعوره بالاتصال بإله السماء وخالق الأكوان لأن الصائم في ضيافة الله سبحانه وتعالى ويقع تحت الرحمة الرحيمية المباشرة. ومن الواضح ان الشعور بالاستناد إلى القوي الكبير والحظوة برضاه يشبع في النفس وفي الروح رضا، إذ يقول سبحانه وتعالى: «الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب» (الرعد: ).

وهذا الاطمئنان الروحي من أقوى مطاردات الخوف والقلق والاضطراب التي هي بدورها تسبب أمراضاً كثيرة: جسدية وعقلية وعاطفية، فإذا حصل هذا الاطمئنان ارتاحت النفس واستنار الضمير وشعّت الروح واندفع بذلك الإنسان إلى الطاعة والعبادة والتزكية والتهذيب لنيل المقامات المعنوية الرفيعة والعقلية وأرقى مراتب اللذة للوصول إلى الطريق إلى الله.

لكل عبادة ظاهر وباطن، فالأحكام الواجبة والمستحبة تعين الشكل الظاهري لهذه العبادة، أما الإرادة والنية فهما يعينان باطن هذه العبادة، والقرآن الكريم يدعونا إلى ظاهر العبادة، ويعرفنا أسرار العبادات، ففي خصوص الصيام يعرفنا أصله وشهره وساعاته وبدايته وختامه، وكل خصوصيات هذا الشهر المبارك وما له من أسرار.

ولذلك قالوا: إن من أسرار الصيام هو أن يقل النشاط الحيواني للإنسان، مثل الشجرة التي اصابتها عشقة فلا تنمو. وتقول بعض الروايات: ما الصيام إلا لكي تذهب الطراوة والنشاط والحيوية التي حصل عليها الإنسان من غير شهر رمضان لأنه نشاط كاذب، وعندما يصوم الإنسان وتحدث بينه وبين الصيام علاقة، يصل بالتدريج إلى باطن الصيام، فباطن الصيام يقرب من الله تعالى «الصوم لي وأنا أجزي به». وهذا التعبير خاص بالصيام فقط ولم يأت لبقية العبادات. يتدرج الإنسان في صيامه من الدرجة الدنيا في معرفته للأسرار إلى الدرجة العليا التي هي لقاء الحق سبحانه.

ولعبارة «الصوم لي»، خصوصية يريد الله ان يبينها، فالصيام ملك لله سبحانه وتعالى والإنسان يمسك منذ الفجر حتى الغروب، وهذه درجة للصائم، بها يسعى لئلا يحترق بالنار وأن يدخل الجنة، «جنات تجري من تحتها الأنهار» (الحديد: )، فالذي كل همه وتفكيره في حلول وقت الإفطار، ويشعر بالارتياح عند إفطاره وكأنه انتهى من عذاب الصيام، لا يصل إلى الحرم الإلهي، ولا إلى لقاء الله عز وجل، فإلى جانب أحكام الصيام وآدابه الخاصة به، هناك سر وهو لقاء المحبوب ألا وهو الله عز وجل.

هذا الحديث يوجد الشوق في الإنسان ومن ثم يجعله عاشقاً، فالإنسان بغير الشوق لا يتحرك ولا يسعى... عندما يكون الصيام لله، فماذا يعطى للصائم؟ إن الله يعطي الصائم الثواب.

يقول العلامة محمد تقي المجلسي (قدس الله نفسه الزكية) - في كتاب روضة المتقين في شرح كتاب من لا يحضره الفقيه الذي هو من كتب الإمامية القيمة - إن الله عز وجل لم يكتف بالقول «الصوم لي» بل قال «وأنا أجزي به، بل قدم نفسه تعالى وقال: «الصوم لي وأنا أجزي به» وهنا قدم ضمير المتكلم على الفعل ولم يقل وأجزي به، بل قدم نفسه تعالى، وقال: «الصوم لي وأنا أجزي به».

فيقول سبحانه في هذا المقام «الصوم لي، الصوم ملكي، وأنا بنفسي أجازي الصائمين، وأنا لا غيري اعطيهم ثوابهم، في الأعمال الأخرى عن حضور الموت، تأتي الملائكة لاستقبال المؤمنين وتقول «سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين» (الزمز: ) فأبواب الجنة لكم مفتحة، فادخلوها من اي باب شئتم، لكن بخصوص الصيام يقول أنا اجزي به، فكيف يصل الإنسان إلى مقام يكون الله عز وجل فيه هو المتعهد بالثواب، فالله تعالى يقول في وصف المتقين: «إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر» (القمر: - ).

فإذا كان الصيام لأجل ان يكون الإنسان متقياً، فبالتقوى يحصل الإنسان على درجتين: الأولى هي الجنة التي فيها نعم الله الكثيرة: «إن المتقين في جنات ونهر» (القمر: ) وفيها اللذات الظاهرية، والأخرى عند الله: «في مقعد صدق عند مليك مقتدر» (القمر: )، فالكل يعمل من أجل هذه الدرجة وعندها لا يكون للأكل والشرب محل أو كلام، فأنواع الثمار والفاكهة هي للبدن، والجنة والأنهار لأجل الجسد، أما لقاء الله فهو للروح وهذا هو سر وباطن الصيام.

يقول ابن الأثير: من النقاط التي على اساسها قال تعالى في الحديث القدسي: «الصوم لي وأنا اجزي به» انه ليست هنالك أمة من الأمم التي عبدت الأوثان قد صامت للوثن، نعم لقد صلوا وقدموا القرابين، وكان لهم مراسم أخرى، لكنهم لم يصوموا، الصيام لله عز وجل فقط، ليس هناك من مشرك صام تقرباً للقربان، فالصيام تكليف إلهي، أما بقية العبادات فقد أشركوا بها وعملوها لغير الله، أما الصيام فلا، لهذا قال تعالى: «الصوم لي وأنا أجزي به»، فالله جعل الصيام لنفسه، وهو الذي يجازي الصائم.

ومن أجل ان نعرف ان صيامنا مقبول أو لا، ننظر إلى أنفسنا فإن لم يخطر على بالنا ميل أو حب للدينا وأمثال ذلك، فصيامنا مقبول والشيطان بعيد عنا، ونحن في مأمن منه، وإن كان العكس فصيامنا غير مقبول، والشيطان معنا، ونحن إنما صمنا صياماً ظاهرياً ليس له سر ولا باطن.

يقول (ص) في الحديث الشريف: «لكل شيء زكاة وزكاة الابدان الصيام». وقال تعالى: «واستعينوا بالصبر والصلاة» (البقرة: ) الحديث يعني بالصبر الصوم، وقال (ع): «إذا نزلت بالرجل نازلة أو شدة فليصم، ليس فقط في مسألة الحرب، بل يصوم في جميع المحن والصعاب التي تواجه الإنسان لأجل حلها، وبهذا يصل الإنسان إلى عمق وأسرار الصيام.

فما أثر الصيام في حل المشكلات؟ وأي مقام يصله الإنسان بحيث ينتصر على المشكلات، هذا الإمساك الظاهري هو الذي يرفع الروح الى مقام عال فتصبح متفوقة على عالم الطبيعة، قال (ع): «عندما تواجهكم المشاكل صوموا، واطلبوا من الله العون والمساعدة» لأن الله تعالى يقول: «الصوم لي وأنا أجزي به»، فالذي يصوم لله يتكفل الله بحل مشكلاته وهو الذي بيده كل شيء، فالله سبحانه هو الذي يسهل الأمور للذين يسيرون على الطريق المستقيم «فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنسيره لليسرى» (الليل: ).

الشيخ حسين عبدالله المتروك

العدد 1127 - الخميس 06 أكتوبر 2005م الموافق 03 رمضان 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً