من بين كومة أوراقي المهملة والمركونة على الدرج منذ شهور مضت، وقبل أن أمزقها وأرميها، أعدت قراءة وترميم إحداها التي بدأت الكتابة في أول فقراتها:
... في درب عودتي إلى البيت والملل يغمر ما حولي ويطوقني، لم أدع لحر الظهيرة الشديد والباعث على الرتابة والتوتر والقلق أي فرصة للاستحواذ على الزوايا المتوهجة في داخلي، ولا أن يقف حائلاً بيني وبين مراجعة ما استوقفني من تبريكات وتهان انهالت على المتفوقين والمتفوقات وذويهم من بنات وأبناء الوطن، فضلاً عن تلك الأحاديث المبتسرة التي تم التداول بشأنها في غرفة الدردشة الحوارية التي أشارك فيها، كما لم يوقف متابعتي للملاحق اليومية التي نشرتها الصحف المحلية للمتفوقين والمتفوقات.
من بين هذا وذاك، كنت على يقين بأنني أبحث عن شيء ما، واسترق النظر في الصور المنشورة وأتأملها وأتفحص التعليقات التي كتبت أعلاها وأسفلها، ففيها يكمن تاريخ اللحظة التي عبرت عنها تلك الابتسامات وأحداق العيون القلقة والباحثة عن ضآلتها في أزمنة المستقبل المجهول. نقبت من بين ما نقبت عنه في تلك الصور، عن وجوه لزميلات وزملاء، صديقات وأصدقاء منذ أيام الصبا، جيران تضاعفت أعمارهم، وغدا بعضهم مع الوقت أمهات وآباء لهؤلاء المتفوقات والمتفوقين. وباستمرار تقافز نظري ومقارباتي ما بين هنا وهناك، شع من أمامي بريق شهد على لحظة الانتشاء والسعادة المغمورة في جوف هؤلاء الأمهات والآباء في زمن ما وفي هكذا ظروف، هي ذاتها المشاعر التي تدفقت في دواخلهم وجعلت كلاً منهم يردد بينه وبين نفسه عبارة: «إن تفوقهم هو نجاح لي»! ثمة ما يدعو المرء إلى التأمل أكثر في السر الكامن وراء المشاعر والأحاسيس التي ينسبونها إلى أنفسهم، أهو نجاحاتهم وتفوقهم، أم فشلهم، أم بحثهم الدائم والعاجز عن فردوس مفقود لم يوفقوا بعد في الوصول إليه، ليس لسبب غير أنهم أوقفوا عقارب الساعة، وتموضعوا حول أنفسهم وتحديداً عند محور الدائرة الثابتة ولم يتحركوا!
يومها كتبت لابنتي يوم تخرجها: «اليوم بالتمام كيوم مولدك، ذات العيون الواسعة والعقل الكبير، شكراً لك، أسعدتني، مبروك بوسع السماء، مبروك بامتداد البحر». رسالتي كانت قصيرة، بيد أنها أعادت بي الأدراج إلى الزمن الماضي وقتما تخطيت عتبات المدرسة لأول مرة في حياتي بالبكاء والزجر والضرب، لم أفرح بها كما فرح بعض الأطفال، بل رفضتها ولم أقبل بها، لم أدرك وقتها أهمية أن أكون تلميذة في المدرسة، في البدء تخيلتها مكاناً آخر سأمارس فيه اللعب. ولأنني أقدس اللعب والمرح، كرهت سجن المدرسة ونظامها التلقيني، وفرضها القيود التي لم ألفها في بيئتي الطبيعية حيث الحرية والبساطة واللعب والجري مع أقراني من بنات وصبيان في المنزل والحي. ولكثرة غرامي بتنوع الفساتين وألوانها، كرهت زيها الكاكي اللون. وعليه، جاءت نتيجة العام الدراسي الأول، خيبة لآمال الأهل، ورسوباً بالتمام والكمال. لم أكن أتذكر وإلى الآن من سنوات الدراسة الابتدائية الثلاث، غير علم البحرين الذي كان يرفرف في كتاب القراءة، ونشيد «بلادي» الذي بح به صوت مديرة مدرستنا «موزة القحطاني» وحرصها التام على تعليمنا إياه يومياً، إضافة إلى علبة «محارم الورق» الصغيرة التي اعتدت شراءها أسبوعيا من مصروفي اليومي، والتلهي بها أثناء شرح الدروس، فضلاً عن قنينة «المياه الغازية» وشطيرة «الجبن» أو «السمبوسة»، القابعة في الذاكرة الجمعية، والتي حرصت أشد الحرص على ألا يفوتني تناول أي منها كفطور يومي، وسط جوع كانت بعض زميلاتي يتضوعن منه!
ولأنني إلى الآن لا أدري كيف تم ترفيعي من مرحلة إلى أخرى وحتى الصف الرابع الابتدائي، ما فاقم من مأساتي وتورط الأهل معي، إذ حينها لم أكن قادرة على كتابة حتى اسمي باللغة العربية، ولا بأية لغة أخرى. أربع سنوات أمضيتها في اللعب والركض والثرثرة في ملعب «حوش» المدرسة الواسع، والتحديق في أحذية زميلاتي ومقارنة بعضها مع بعض، وما إذا صنعت من الجلد الخالص، فأدرك بالفطرة أن صاحباتها مرفهات مادياً، وإن كانت مطاطية، فهن من العامة المعوزة، تعب والدي من إصراري على عقد تلك المقارنات ومطالبته بتوفير حذاء جلدي خالص لي ونحن الذين ننتمي للعامة المسحوقة! إلى ذلك الوقت لم أعِ بعد، ما هي الدراسة، فجهل الجميع كان سيد الموقف في عدم معالجة تلك الأزمة. كنت أتمتع بحفلات المناسبات التي تقيمها المدرسة على رغم انهم يحرموننا في غالبية الأوقات من المشاركة فيها بسبب كوننا والأخريات غير شطار، يطلقون علينا «كسالى». وذات يوم، وحينما أحضرتُ شهادة منتصف الفصل إلى عمتي وهي بمثابة الأم والمربية، وغالبية خاناتها عُلِّمَتْ بالدوائر الحمراء، ماعدا خانة مادة الرسم، إذ كنت أعشق الألوان، وخصوصاً تلوين رسوم الكتيبات الكرتونية، وسماع القصص والحكايات، نعم سماعها وليس قراءتها أو كتابتها، وكما سبق وأشرت ولتلك المرحلة لم أفك الحروف ولا كتابة جملة مفيدة باللغة العربية ولا التفريق حتى بين حروفها. هل الذنب ذنبي؟ السؤال كبير والإجابة عويصة، وبحاجة إلى محاكمة ماضي التعليم وحاضره، لاسيما إن حالتي لم تكن استثناء، بقدر ما شكلت ظاهرة منتشرة آنذاك. وببراءة الطفولة غالباً ما كنت أرد على احتجاجات الأهل وتأنيبهم بعبارات «ما يخصكم»، و«كيفي ولا يهمني» تلك التي شكلت على ما يبدو استراتيجية لمسيرتي العملية! عمتي بدورها لم تضيع معي وقتها، فهي مغتاظة ومتحسرة على كل دقيقة بذلتها في رعايتي، من الصحو مبكراً إلى الاعتناء بي وإعدادي للذهاب للمدرسة وترتيب هندامي وتجديل شعري الطويل الذي قصصت نصفه وأبقيت على الآخر في لحظة نزوة وطيش. والنتيجة دوائر حمراء ورسوب في جميع المواد. مزقت الشهادة إلى نتف صغيرة ورمتها بغضب في وجهي، ومن عيونها يتطاير الشرار، لم أبكِ، بدورها لم تفعل شيئاً آخر غير ذلك الصمت المطبق. بيد انها فعلت فعلها في قلب مسار حياتي الدراسية والمعرفية من أسفلها إلى أعلاها، لأتمكن وبإرادتي في السنة التي تلتها، من قراءة قصص الأطفال ومجلة «سمير» و«حواء» وكتابة الحروف والجمل وإن بأخطاء إملائية. صار ترتيبي من الثلاث الأوائل في الصف. فالإحساس بالإهانة كبر وتضخم في داخلي وبصمت وقهر مكتوم، وانتفاضة أعلنتها على اتهامات الغباء والكسل والبلادة التي وجهت إليّ، وعلى رغم المعاناة فإن الكلمات التي ارتعشت في أذني، قد ساعدتني على اجتياز طرق العبور إلى الضفاف الأخرى، وهي التي شكلت دافعاً حقيقياً لكي لا أعترف بالفشل إلى الآن في حياتي! الإهانة أسرعت ودعمت انتقالي من مرحلة الطفولة واللعب والبراءة والسذاجة إلى مرحلة النضج وتحمل المسئولية واقتحام عالم الكبار قبل الأوان، لم يكن يهمني إرضاء من حولي بما كنت أحققه من تفوق، لا، كنت أشبع به غروري فحسب، وطموحي بأن لا أكون متخلفة عن الآخرين، ولا أدع فسحة في يوم ما لأي كان من توجيه الإهانة ثانية إليّ أو التمكن مني. لا ريب إن ذلك الإحساس قد حرك مسارات عدة من حياتي وتجاربي فيما بعد، وصار داعماً للحاجز القوي والمنيع الذي شيدته بيني وبين الفشل.
التفوق أو الفشل، مسألتان نسبيتان حسب ما أعتقد، أولاهما ليست اختراعاً مستحيلاً، والثانية ليست بالأمر المستهجن، وهما محصلة ونتيجة لتلاقي عوامل وعناصر عدة ومتشابكة، تخص الذات الفردية، والظروف الموضوعية المحيطة بهما وبما له من علاقة (بالمجتمع والأهل، والمدرسة والبيئة... الخ). العبرة هي في نوعية التفوق الذي يكثر الحديث عنه، وهو بلا شك نسبي، فضلاً عن كيفية إدارة مسار الفشل وتحويله إلى مسارات النجاح والتفوق، هنا من الممكن الحديث عن تخليق للقيمة المضافة للذات قبل الآخر وعن متعة تتحقق من الإنجاز لذلك الإنسان الذي يسمونه فاشل! غالباً ما كنت أخجل من مكاشفة أبنائي بحقيقة تلك الإخفاقات، لاسيما وأنا الأم والمعلمة الصارمة والشديدة البأس معهم، بيد أنني حطمت ذلك الحاجز المقيت يوما ما، وبسطت بين أيديهم الحقيقة كاملة بلا مواربة ولا كذب ولا رتوش، فقط الحقيقة، وأوضحت أمراً رأيته هاماً بالنسبة إليّ، ألا وهو احتمالية ترجيح وتحويل الفشل إلى نجاح إذا ما توافرت الظروف الملائمة ومواءمتها مع الإرادة المتمردة والتصميم والشجاعة والقدرة على الاستفادة من المتاح ما حولنا من عناصر، وتأسيس ذلك على المنطق والفكر. وأخيراً لا يغيب عن البال، «أن نسبية النجاح قد تولد التميز»! لهذا وذاك قررت ألا ألقي بأوراقي المركونة في سلة المهملات، فأبنائي وابنتي وكل الشابات والشباب أولى بقراءتها والاطلاع عليها
العدد 1224 - الأربعاء 11 يناير 2006م الموافق 11 ذي الحجة 1426هـ