ظلت المباشرة في الشعر، بشقيه الفصيح والعامي، واحدة من المآخذ التي ظلت قريبة من «الوصمة» في التجربة، وخصوصا مع تبلور وامتداد المدارس الشعرية بشقيها على امتداد الوطن العربي، واتساع قاعدة المريدين والمنحازين اليها. مثل تلك المباشرة ظلت تعبّر - في نظر كثير من قرّاء التجارب الشعرية - عن حال من القصور، ومحدودية الفضاء الشعري، واحتباس المخيّلة ضمن المعاين والمرئي والمرصود، فيما هي خارج كل ذلك، تكاد تعلن أنْ لا علاقة به.
جانب من ذلك النظر لا يخلو من حقيقة، لكن التعميم لا يعرّض النص المراد قراءته الى عطب ومصادرة وشبه إلغاء له، بل يعرّض القراءة نفسها الى الوقوع في مطب تحميل بعض النصوص، تبعا لسياقها الزمني والمكاني، والمضامين التي تحويها، يضاف الى ذلك امكانات الشاعر وقراءته وانفتاحه وتقبله للتجارب المغايرة لتجربته، أكثر مما تحتمله.
كل تلك الأمور متى ما تم غض الطرف عنها، أو اسقاطها من عملية نظر شاملة لحظة الدخول في قراءة القصيدة واستنطاقها، تعمل عملها في توريط القراءة في حال من المزاج والارتجال في الوقت نفسه. المزاج بتعرض العملية الى إلغاء أو إسقاط في أي لحظة، فيما هي جزء لا يتجزأ من مفاتيح تؤدي الى الدخول الى النص. والارتجال من خلال جملة من الأحكام التي تنتج عن ذلك الاسقاط والمزاج، إذ كثيرا ما تأتي تلك الأحكام من نسيج المزاج نفسه، وبالتالي يصعب النظر الى تلك النوعية من «القراءات» التي كثيرا ما تأخذ موقف الانطباع، على أنها قراءات تملك أدواتها وامكاناتها ومداخلها الضرورية لممارسة العملية النقدية برمّتها بشيء من الاذعان الى المنهج والالتزام به.
ربما لابد من اشارة قبل الدخول في قراءة جانب من تجربة شاعر الملف الشهري الثاني عشر، محمد بن جاعد الظفيري، تتعلق بانتقال الشعر - بشقيه الفصيح والعامي - من مرحلة البلاغة، بمعناها الصارم والمعهود ضمن اشتراطاته في تجارب عربية سحيقة، وحتى بعض التجارب المحدثة، ربما قبل ثلاثة عقود، الى مرحلة الاستعاضة عنها بصور من الغموض في درجاته المتزنة، مشفوعا بتكثيف لغوي من جهة، وإحداث حال من التوازن يكون بمثابة وسيط بين الاثنين: الغموض، والتكثيف اللغوي، ويمكن تحديد جانب من ذلك التوازن في اعتماد الكثير من القصيدة على عنصر «اللقطة» الخاطفة/ السريعة التي لا تحرم قارئها ومتتبّعها من الوقوف على عنصر من الدهشة في تركيبها.
مثل تلك الانتقالة من مرحلة البلاغة، الى الغموض والتكثيف اللغوي، مع إحداث حال من التوازن المشار اليه، لم تعد ماثلة في القصائد التي مازالت منحازة الى المدرسة التقليدية بكل إرثها وزمنها وسياقاتها تلك، وانفصال تلك التجارب عن السياق الزمني المعاصر، من حيث هو مجموعة عناصر تأتي اللغة بتجددها على رأس تلك العناصر، يضاف الى ذلك أن الانحياز ذاك لم يحقق لتلك القصيدة أي اضافة تذكر، مقارنة بالتجارب التي سبقتها، بل على العكس من ذلك، ظلت حبيسة الشكل، فيما المضامين ظلت في تراجع، وتهاوي وترهّل كل ما يرتبط ببنية تلك القصيدة.
قبالة ما تم طرحه سابقا، يبرز سؤال: هل تستبعد مثل تلك التجارب الضاربة في تقليد النماذج التأسيسية؟ وهل تكتمل قراءة أي تنوع أو حراك شعري في أي بقعة جغرافية بالانحياز لأى توجه وطيف ومدرسة دون سواها؟
ربما تكون مثل تلك الاسئلة وغيرها مدخلا مساعدا لقراءة تجربة الشاعر البحريني محمد بن جاعد الظفيري.
يمكن القول إن العقد الأخير من القرن الماضي أنتج مجموعة من الأسماء التي انحازت غالبيتها الى التجربة الشعرية الحديثة، من حيث لغتها والتكثيف الذي طبع تلك اللغة، ومستويات الغموض المتزنة، ولم تجد نفسها - ربما بعد فترة من نضج التجربة واستوائها - ميّالة الى المدرسة التقليدية بأهم ملامحها وتوجهاتها وسماتها، فيما اسماء قليلة ممن امتدت تجربتها الى ما قبل العقد المذكور بسنوات طويلة أحدثت انعطافة وقفزة في تجربتها تلك بانفتاحها على التجارب الحديثة، والعمل على الاستفادة منها بتطوير تلك التجربة والدخول بها الى آفاق أكثر رحابة وامتدادا.
في هذا السياق لا يمكن تصنيف تجربة الشاعر الظفيري ضمن تلك الفئة، إذ ظل محافظا على تقليدية تجربته ومباشرتها، مع انحيازه الى التجارب التأسيسية، أو تجارب الصف الذي تلا تلك التجارب، والتي ظلت تمثل مرجعية أكثر حضورا، ونموذجا لا يمكن غض النظر عنه أو الالتفات الى غيره من النماذج. وإن تم ذلك فيظل من باب «المعرفة بالشيء» من دون الانسياق، أو الانجذاب وراءها، أو محاولة تمثلها. ولأنني أشرت الى انحياز الظفيري الى التجارب التأسيسية أو الصف الذي تلاها، فلا يخفي الظفيري انحيازه التام وإعجابه الكبير بالشاعر الأمير خالد الفيصل، فيما لا تحتاج الى جهد كبير كي تكتشف تحفظه على جانب من تجربة الشاعر الأمير بدر بن عبدالمحسن، على اعتبارهما يمثلان تجربتين لكل منها خصوصيتها وملامحها وحتى تقاطعها مع التجربة الأخرى، من دون أن ننسى مكانتها وتقدمها في الصفوف الأولى للتجارب الشعرية التي يمكن لها أن ترصد وتقرأ أو حتى يؤرخ لها في الوقت المعاصر.
ولعل جانبا من صور التأثير والتأثر الذي تركته تجربة الأمير الفيصل على جانب من تجربة الظفيري، يمكن تلمّسه وملاحظته في قصيدة «غيم ورعد» وخصوصا في بيتين منها:
من عقب لحظات عشناها جميله
انصفق وجهه وجسمه وارتعد
ما يذكّر ببيت من قصيدة للفيصل نصه:
هزّني مثل السحايب والمزون
في عيوني برق وبقلبي رعد
وفي البيت الأخير من قصيدة الظفيري نفسها تقرأ:
وافترقنا كل واحد في سبيله
غصب عنّا افترقنا يا سعد
و«سعد» الظفيري، في حاله وموقفه ونهاية قصيدته، هو نفسه «سعد» الأمير الفيصل الذي ينهي به قصيدته أيضا بالقول:
هي تمون العين والا ما تمون
لي خذتْ قلبي وقفّتْ يا سعد؟
لا يوجد في معظم قصائد الظفيري إقحام أو تصنّع أو ارتجال للخروج من حال المباشرة في لغته وموضوعاتها، وكأنه بذلك يرى مثل ذلك التصنّع أو الارتجال، إخراجا للشعر عن هدفه «ضمن المفهوم الحاضر والجاهز هو الآخر»، ونأياً به عن غايته - كناقل لجانب من حركة وصور الواقع وما يضج به من قضايا وموضوعات - ويمكن الوقوف على جانب من ذلك الايمان بهدف وغاية الشعر بالنسبة الى الظفيري، من خلال لغة ومضمون قصيدته المنشورة في الملف «مثل ما قالوه»، والتي أهداها الى الشعب الفلسطيني وانتفاضته، في نقل تقوم به اللغة لا يختلف كثيرا عما تقوم به الكاميرا من رصد ومشاهد تلك الانتفاضة، وما يتعرض له الشعب الفلسطيني من صنوف الموت والعذاب اليومي، وهي بالمناسبة صور ولقطات لا علاقة لها بإشارتنا الى اللقطة الخاطفة والسريعة في اعتمادها واتكائها على التكثيف اللغوي، اذ لا تكثيف لغويا في القصيدة المشار اليها، الأمر الذي ينتج عن مثل ذلك الغياب لقطات على النقيض من الأولى. فهي هنا لقطات تهتم بالتفصيل، وربما تكاد تشبه اللقطة في حركتها البطيئة التي تحرص على استحضار أدق التفاصيل والزوايا، ما يدفعها الى اللجوء الى لغة تنأى بنفسها عن الغموض من جهة، وتعمد الى الدخول - وأحيانا التورط - فيما يشبه السرد.
حين تتورط القصيدة في السرد المُفْرغ مما يجعله متماسكا، وحيويا في الوقت نفسه، من خلال لغة قادرة على التمثل والرصد من جهة، وتكثيف يمنحهما مجالا حيويا للتحرك، بفتح فضاءات في أفق القصيدة، تصبح القصيدة ضربا من حديث يومي، وفي مثل ذلك الحديث يصبح الحضور الشعري ضربا من تجلٍ لا تتيحه دائما طبيعة ومسار ذلك الحديث، علاوة على أنه ليس مجاله في المقام الأول.
فيما يتعلق بمساحة كبيرة من قصائد الظفيري، ثمة مواطِن يمكن رصدها واستقصاؤها ضمن تلك الرؤية والتشخيص، من دون أن ينقص أو يقلّل ذلك من قيمتها باعتبارها تجربة - وإن انحازت في حاضرها الى تجارب تأسيسية في كثير من مفاصلها - تسعى مع تجارب أخرى الى تأكيد وتأصيل ذلك الامتداد سواء بوعي أو من دون وعي، وإن انتاب ذلك الانحياز تفويت أو هدْر للحظة الزمن الراهن بكل علائقه وخصائصه وسياقاته، مما لا يمكن بأي حال من الأحوال نفي تأثر وتوظيف القصيدة التي يراد لها أن تكون معاصرة بل ومستقبلية، لكل تلك العلائق والخصائص.
يبقى القول إن تجربة الشاعر محمد بن جاعد الظفيري، وضمن توجهها وسياقاتها، تظل واحدة من التجارب المهمة ضمن مسار تجارب تنزع الى التباين والتعدد والتمايز، بغض النظر عن مدى الاتفاق على ذلك التباين والتعدد والتمايز
العدد 1366 - الجمعة 02 يونيو 2006م الموافق 05 جمادى الأولى 1427هـ