لا يمكن أن تتوافر لراصد أية حركة شعرية على اختلاف أنواعها وتوجهاتها، في مملكة البحرين، أية صدقية أو منهجية - لأي سبب كان - ما لم يضع في اعتباره وحسبانه المراحل والأصوات المؤسِسة لتلك الحركة، أو بمعنى آخر، ظلت رقما صعبا في معادلة لها ما لها، وعليها ما عليها، وأسهمت بشكل أو آخر في بلورة صورة ومشهد يمكن الوقوف عليهما قراءة وتتبّعا وحتى توثيقا لمسار واتجاهات وعمق تلك الحركة.
يبرز من بين تلك الأسماء، الشاعر البحريني مبارك بن عمرو العمّاري، الذي أسهم إسهاما كبيرا مع عدد من الأصوات - سواء تلك التي سبقته في التجربة، أو تلك التي على متاخمة أو مجايلة معها - في خروج القصيدة الشعبية في المملكة، إلى فضاء أوسع وأرحب في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، بل ويمكن القول، انه يمثل مع المغفور له بإذن الله تعالي الشاعر الشيخ أحمد بن محمد آل خليفة، ثنائيا استطاع أن يمنح تلك القصيدة مثل ذلك الفضاء المتجاوز لمحليته.
ظل الشاعر العمّاري وفياً وملتزماً بأسس واشتراطات القصيدة ضمن بنائها التقليدي، مع تسلح واتكاء ضخم وملفت على جانب معرفي بالفنون والتراث على اختلاف أوجهه وألوانه، علاوة على اجتهاده المستمر، وبحوثه المجدّة والمؤسِسة لجانب مهمل ومسكوت عنه، مرتبط بعدد من رواد تلك الفنون بأشكالها المتعددة، وهي بحوث نالت اهتمام باحثين ومتخصصين نوهوا بجهوده واصداراته في هذا المجال، علاوة على أن بعضها حظي بجوائز ذات تقييم مُحْكَم، كجائزة ولي العهد القائد العام لقوة الدفاع صاحب السمو الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة، للدراسات عن بحثه المتميز والملفت عن مطرب الصوت الأول والرائد محمد بن فارس.
ولعل ذلك يقودنا إلى ما سبق طرحه في عدد من الملفات الشهرية السابقة، يتعلق بظاهرة اتكاء كثير من الشعراء في جانبهم المعرفي على القصيدة، ولا شيء غيرها، فيما نحن إزاء تجربة شعرية رائدة وفي الصف الأول منها، لم تركن إلى ذلك الوهم، على رغم أن جانبا من نماذج شعر العماري المنشورة في ملف هذا العدد، توحي بمعرفة عميقة، وتشير اليها. فالعماري في هذا الصدد يأتي إلى القصيدة بمعرفة وثقافة متحققة وتتراكم يوما بعد يوم، ولا ينجز تلك القصيدة إلا بعد أن يترك آثار وسمات وملامح تلك المعرفة والثقافة في ثناياها. ولا نبالغ إذا ما قررنا أنه اضافة إلى دوره الريادي في التعريف بالقصيدة البحرينية خارج حدودها، كانت له الريادة في الوقت نفسه في التعريف بجانب من تراث وفنون ورجالات المملكة خارج تلك الحدود، بل وتكاد تتاخم فضاء عربيا أكبر وأرحب.
لعل استدراكاً يسجل هنا، يتعلق بالكلام على المدارس التقليدية في القصيدة الشعبية في المملكة، سبق وأن نشر في عدد من ملفات «ريضان» مفاده: أن بعض المنتمين إلى تلك المدرسة ظل وفيا وملتزما بأسس واشتراطات تلك القصيدة من دون أن تكون اللغة موضوع تجديده واستثماره لها بالشكل الذي يمنح القصيدة حيوية وسلاسة تكون فيه طيّعة ومنقادة على مستوى تلقي القارئ لها، فيما البعض الآخر، وعلى رغم محافظته على ذلك الوفاء والالتزام، فإنه وعى إلى أهمية أن تكون اللغة ميداناً ومجالاً لتحركه على مستوى التجديد، كمدخل لنفخ روح المعاصرة والاستمرار والانفتاح على ذلك الضرب من الشعر من قبل أطياف من القراء العرب متعددة اللهجات والثقافات والاهتمامات. ومع تسلمي لقصائد الشاعر العماري للإعداد لهذا الملف، وقفت على عدد من القصائد التي أقرأها للمرة الأولى، ما ترك لدي انطباعين:
الأول، انني ظللت محافظا على قناعتي بأن العمّاري يذهب إلى القصيدة متسلّحاً بمعرفة، ولا يتكئ - كما يفعل كثيرون - في معرفته على القصيدة وحدها.
الثاني، أن جزءا كبيرا من تلك القصائد ترجّح كفّة العمّاري في ريادة ثانية، إذا صح التعبير، ترتبط بالصنف الثاني من الشعراء المحافظين على وفائهم والتزامهم، مع وعيهم بأهمية أن تكون اللغة ميداناً ومجالاً للتحرك على مستوى تجديد مضامين القصيدة وموضوعاتها.
معظم القصائد التي بين يدي تعود إلى مطلع التسعينات من القرن الماضي، أقدمها ترجع إلى العام ، وصولا إلى العام . والملفت أن القفزة النوعية تلك تبدو واضحة في قصائد العامين - ، من خلال توجه، وربما تعاطٍ مختلف مع اللغة يقود إلى تأكيد ما ذهبنا اليه في الفقرات السابقة، اذ اللغة هي المنفذ والفضاء الذي يتحرك من خلاله العمّاري لإحداث تلك النقلة. فقصيدة «جيتي ضياع» التي لم يُؤرّخ لها بخلاف بقية القصائد، تكاد في لغتها وبنيتها وحمولاتها على اتساق مع القصائد التي كتبت في الفترة ما بين ، اذ نحن إزاء توجه جاد يعي تماما أسس واشتراطات انتقالاته من مساحة القصيدة التي تمثل نموذجا حيّا للوفاء والالتزام، ومحافظتها على مضامينها والاشارات التي تتوخى إرسالها بشكل مباشر، إلى مساحة تتمتع فيها القصيدة بفضاء مفتوح، وتجريبية وإن لم تكن على تلك الدرجة العالية، اضافة إلى تكثيف لا يمكن الاغفال عن تراتبيته، ودرجات وعيه في القصيدة المذكورة.
هزي شعورك عسى يخبّرك بشعوره
خلّي الصراحه تدلّك موقفه وينه
المتتبع لمسار الجهد البحثي للشاعر مبارك العمّاري يرصد انحيازاً واضحاً لقيمة البحث، وكأنّ الشعر في هذا الإطار في طرف من اهتماماته، أو بمعنى أدق، لا يأتي في المرتبة الأولى من تلك الاهتمامات، بل هو وليد ساعته ولحظته، وأحيانا كثيرة مناسباته، اذ عرف العمّاري في جانب من شعره باعتباره شاعر مناسبات، يكاد يكون من الشعراء البارزين فيه، على رغم ما يكتنف ذلك التوجه في الشعر من إشكالات ليس هذا مجال الحديث عنها.
وتبرز أولوية وقيمة البحث لدى العمّاري من ادراكه لمساحة الفراغ الكبرى التي لم يتم سدّ نواقصها بعد، وهي مهمة تقع على عاتق الأكفاء في أي مصر من الأمصار ولا يمكن الاضطلاع بمسئولياته الا لمن أوتي حظا من المعرفة والهمّة والجلد واتساع الأفق. على أن موقفه من الشعر باعتباره في الطرف الأدنى - ربما - من الاهتمام، وخصوصا في السنوات الأخيرة، يحيلنا إلى إشكال يتعلق بمثل تلك التمييزات التي ليست بالضرورة مرتبطة بالوعي بقيمة الانشغال بالبحث، بقدر ما هي مرتبطة بكمّ الوعي الذي يمكن للشعر أن يلعبه في الكثير من مفاصل الحياة، وخصوصا اذا ما تخلص ذلك الشعر من القيود والاشتراطات التي تحد من قدرته على تأدية الدور المنوط به.
ختاماً أكرر: أنه لا يمكن لأي باحث أو مترصد للساحة الشعرية في مملكة البحرين أن يتغاضى عن اسم كبير ورائد في مجاله، وعن واحد من الأصوات المهمة التي تركت أثرها الواضح والكبير في مسيرة الشعر الشعبي البحريني.
من وجهة نظري تقاس تجربة ما بحجم ما تستطيعه من تفعيل في الساحة. فالمسألة لا تتعلق بالكم أو الكيف ولا بنوعية ما يكتب ولكن بحجم قدرتها على خلق التواصل واستثارة الكثير من وجهات النظر فيها. وتجربة مبارك العماري وعلى رغم ارتكازها على مخزون شعبي قديم - قد يجده البعض قد حد بصورة واضحة من استرسال العماري مع مساعدته على ذلك حين اختار قصائد المدح والرثاء بشكل واضح في تجربته - فانها تجربة تدين لها الكثير من التجارب التي استفادت منها وكانت بحق مثار أخذ ورد طويلين.
هو أستاذنا الذي علمنا السحر لذلك لا نستطيع الحديث عنه. فالعماري صاحب التجربة الغنية لديه ميزة مهمة وهي الجمع بين التراث الشعبي وشعر اليوم. فشعره خليط بين الجزالة والتعبير الحديث، خليط بين التجربة الحديثة والقديم. فهو لايزال محافظا وملتزما بالشكل العمودي للقصيدة. ولم يحاول أن يكتب قصيدة التفعيلة، ولكن لا أتصور أن هذا أمر معيب طالما أنه يكتب القصيدة العمودية وهو متميز فيها. ميزة أخرى للعماري هي اجتهاده البارز في مجال البحث فهو باحث مجتهد وله باع طويل. لقد قرأت الكثير للعماري ولكن لم أتأثر به والسبب قلة التواصل معه.
هو صاحب تجربة غنية سواء في الشعر أو في البحث. هو شاعر وباحث وهو الأب الروحي لجميع شعراء البحرين. فقد احتضن تجاربنا وهو أول من نشرها في صفحته «نسيم البرايح». لذلك ليس غريبا أن تربطنا به علاقة أخوة، أتمنى من كل قلبي أن تبقى مفتوحة معه. هذا، إلى جانب أن العماري يعد مكسباً كبيراً للبحوث والتراث البحريني. فمسيرته البحثية أخرجت للمكتبة البحرينية كتبا قيمة لا نجد لها نظيرا في ساحتنا. العماري على رغم تجربته الكبيرة ومسيرته في البحث يظل مقلا في كتابة الشعر ويغلب عليه طابع الباحث. وهو نفسه يصرح بأنه يميل للبحث أكثر من الشعر، ولكنه يظل شاعرا له توجهه في التجربة التي نتمنى لها أن تكبر وأن تعطي أكثر مما أعطت.
العماري بشهادة الكثيرين شاعر له تجربته الكبيرة والرائدة. إلى درجة أنه يصدق عليه أنه صاحب مدرسة شعرية في البحرين. فالحقيقة أننا استفدنا ولانزال من تجربته سواء في الشعر الشعبي أو في جمعية الشعر الشعبي. لقد قام العماري طوال حياته الغنية بتغذية الكثير من المواهب التي أخذت منه وأنا أحدهم. فقط لنا ملاحظة أو لوم على العماري وهو أنه على رغم تجربته الكبيرة ومعرفته الكبيرة فإنه لم يحاول أن يطور من صفحته «نسيم البرايح» مع ما يمتلكه من علم ومعرفة كبيرين في الشعر الشعبي.
لا اعتقد أن لمبارك العماري تجربة يمكن ابداء الرأي فيها فشعره مجرد عمارات وليست قصائد. عمارات تهيأت لها المساحة للبناء مع وجود الترسانة والاسمنت والرمال. مبارك العماري عندما ينظم قصائده انما يعمل على قصائد جاهزة يختار فيها الأوقات المناسبة فهو لا يكتب الا عندما يوجه للكتابة. وأنا أعرف أن صاحب التجربة انسان يتعب ويعاني الكثير فأين هي معاناة العماري؟ حتى فيما يتعلق بتجربته كباحث وقول البعض إنه أخرج بعض الوجوه من دائرة الظل أنا شخصيا غير مقتنع بها. فصفة الباحث تستدعي بالضر
العدد 1394 - الجمعة 30 يونيو 2006م الموافق 03 جمادى الآخرة 1427هـ