العدد 1471 - الجمعة 15 سبتمبر 2006م الموافق 21 شعبان 1427هـ

شمس

(1)

تمشي على تراب الساحل حافية القدمين، أصابعها العارية تأنس بمداعبة التراب المبلل ببعض قطرات البحر، علاقة حميمة تجمع بينها وبين الشمس التي تطل عليها من بعيد، تبعث أشعتها إليها كما تبعث وردة لحبيب، تبتسم لها ولكن ليس بثغر باسم وإنما بدفء الغروب. علاقتها بالشمس بدأت منذ أن أسماها أبوها شمس.

تمشي شمس على ساحل البحر، ترى الشمس من بعيد، وتشعر أن الشمس تراها من بعيد أيضاً، شمس وشمس وبينهما بحر، هكذا تفكر دائماً، تربط كثيراً بينها وبين الشمس وتبحث عن أوجه الالتقاء بينهما.

تيار الهواء يحرك حجابها، ويحرك بعض الشعرات التي انتفضت، كما يبدو، على الالتزام وراحت تبحث عن فضاء تتنفس منه الهواء. ثيابها المحتشمة لا تتأثر بتيار الهواء، تبقى صامدة، وتعلم شمس بعض معاني الصمود. ولكن إلى متى؟

وقفت قليلاً ونظرت نحو الشمس، كأنها تريد أن تستلهم منها شيئاً يعينها على حل معضلتها. يرشدها للطريقة المثلى التي يجب أن تتصرف فيها. هي لا تلجأ عادة للشمس إلا إذا أحست أنها تريد أن تحاكي نفسها، تريد أن تتأمل في بعض مواقفها، تريد أن ترى مرآة لا تعكسها وإنما تعكس ما بداخلها.

(2)

تدخل البيت لتجد أباها بانتظارها. وقبل أن تدخل غرفتها:

الأب: أين كنت منذ العصر وحتى الآن؟

شمس: ذهبت عند ساحل البحر.

الأب: وهل هذا وقت نزهة؟ اسمعي، لا تظني أنني سأستبدل قناعاتي حين تتماهلي في الرد على ما آمرك به.

شمس: أنا لم أذهب لساحل البحر للنزهة وإنما للتفكير، هذا أولاً، ثم إنني قد قررت ما أشعر أنه من حقي، وعليك أن تتفهم قناعاتي أنا أيضاً.

الأب: أنا منذ البداية كنت واضحاً معك، أنا لست ضد الحجاب، فهذا من حقك، ولكن أنا ضد أن تفضلي الحجاب على الوظيفة التي من دونها سنعيش حال فقر وعوز. إذا كان صاحب العمل يريد منك أن تخلعي الحجاب فاخلعيه لنعيش من دون حاجة لأحد. الإسلام، يابنتي، دين يسر، ولست أنا من طلب منك خلع الحجاب، إنه صاحب الفندق الذي تعملين فيه. قلت لك ابحثي عن وظيفة أخرى فلم تجدي، ولو وجدت وظيفة أخرى لما أمرتك بخلع الحجاب، فهذا شأنك، ولكن ماذا نصنع الآن؟ إن لم تعملي في هذا المكان فمن سيجلب المال لنا؟

شمس: أنا أعلم بضيق الحال ولكنني لا أقدر على بيع ديني من أجل بعض المال.

الأب: ومن قال لك بيعي دينك؟ قلت لك اخلعي الحجاب فقط، اخلعيه لنعيش كما الناس براتب شهري يسد الرمق.

شمس: لا أقدر يا أبي لا أقدر. أنا منذ صغري أحب أن اكون ملتزمة، أحب الصلاة وكل ما يوثق علاقتي بالله، قد أخطئ أحياناً ولكني أندم على ذلك كثيراً. لا يمكن أن أقوم بشيء يغضب الله، لا استطيع ذلك.

الأب: هل يغضب الله حين تطيعين أباك وتسعين لأن توفري له بعض المال؟

شمس: أرجو أن تفهمني يا أبي، أرجوك.

الأب: إن لم تنفذي ما أمرتك به فسأطردك من البيت. وابحثي لك حينها عن مكان آخر.

(3)

تدخل الفندق بلا حجاب. لأول مرة في حياتها تشعر أنها تمشي عارية، هي لم تخلع حجابها فقط، إنما خلعت سوراً نفسياً كانت تعيش وسطه براحة بال وطمأنينة نفس. العيون تلاحقها، الابتسامات الخبيثة تكثر، وكل حركة أو همسة في المكان تحسبها ضدها. تمارس عملها بلا رغبة، تأمل أن ينقضي اليوم قبل وقته، تتمنى لو تدخن سيجارة واحدة تنفث مع دخانها كل ما بداخلها من خوف ورهبة.

يطلبها المدير في مكتبه وتذهب إليه وجلة.

المدير: تبدين أكثر أناقة الآن.

شمس: شكراً.

المدير: ألا تشعرين براحة أكثر هكذا؟

شمس: ربما.

المدير: أرى أنك خجولة بعض الشيء، اليس كذلك؟

شمس: أحياناً.

المدير: إجاباتك المختصرة تجعلني أصر على أن نبتعد قليلاً عن أجواء العمل، ما رأيك في أن نذهب لتناول طعام العشاء سوياً هذه الليلة في أي مطعم ترغبين في الأكل فيه؟

شمس: لا أظن أنني سأتمكن من ذلك.

المدير: لماذا؟

شمس: لا اعتقد أن والدي سيسمح لي بذلك.

المدير: لا بأس إذن، سأتفق معه أنا. والدك إنسان طيب، سمع نصيحتي وجعلك تخلعين الحجاب، ولا أظنه بعد أن قام بذلك سيرفض طلبي في الخروج معك. ثم انك قد خلعت الحجاب فيجب أن تكوني امرأة أخرى الآن، أنت امرأة حرة وقادرة على أن تستمتعي بحياتك.

شمس: اسمح لي، لن أتمكن من المجيء معك.

المدير: إذا لم تأت معي قد أفصلك من العمل. أنا لا أحب المرأة المتزمتة، ثم أننا سنخرج في عشاء عمل، فأنا المدير ويجب أن أتعرف على من يعملون معي في جو أخوي وبعيد عن كل أجواء العمل، هذه هي طريقتي في العمل، وإن لم تعجبك فابحثي لك عن عمل آخر، ثم انك قد خلعت الحجاب من أجل العمل، فما المانع الآن من ذلك؟

(4)

تمشي على ساحل البحر من دون إحساس بأي متعة، تمشي بتأن لثقل حملها، تحادث جنينها أحياناً وتندم بعد ذلك لشعورها بأنها قد تحدثت مع ابن زنا. جاءت لساحل البحر لا لتحيي الشمس وتبعث لها رسالة ود، جاءت مشمئزة منها، جاءت لتخبرها كم باتت تكرهها. الشمس لم تعد الشمس القديمة، وشمس لم تعد شمس القديمة. متى يحل الكسوف؟

حسن ماجد

العدد 1471 - الجمعة 15 سبتمبر 2006م الموافق 21 شعبان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً