«الوسط» تنشر أجزاء من «كتاب من البحرين إلى المنفى»... للشخصية الوطنية عبدالرحمن الباكر ، بعد تنقيحه وتعديله بما يتلاءم مع مقتضيات النشر الصحافي
من البحرين الى المنفى في سانت هيلانة - عنوان الكتاب يدل عليه... إنها صورة صادقة لما يحتويه من قصة حية لكفاح شعب. إنها ليست قصة حياة فرد يقصها على الناس للعبرة والذكرى لكنه يروي قصة شعب عربي أصيل صارع الظلم والاستبداد منذ أزمنة الحقب ومازال يصارع تلك القوى الجبارة حتى يصرعها ويخرج منتصرا بإذن الله.
ولعل خير شاهد على ما اذكره في مجرى حديثي عن الكفاح الشعبي في البحرين، ما قامت به جماهير شعبنا العربي في البحرين من الاعمال البطولية في مجابهة الاستعمار البريطاني وأعوانه بقوة عزم، وثبات، وتصميم، مبرهنة للعالم كله أنها ستظل صامدة في كفاحها كما عاهدت نفسها عليه حتى تنال حقوقها كاملة من يد المغتصبين. ولا ريب أن شعبنا العربي في البحرين سينال الظفر بإذن الله.
لم تكن رغبتي نشر هذه القصة بكاملها(...) لو لم تكن الرغبة الملحة التي جاءت من معظم المواطنين ومن بعض الشخصيات المهتمة بالقضايا العربية، جاءت كلها تطالبني بالاسراع بنشر قصة كفاح الشعب العربي في البحرين. (...) انها لفرصة ثمينة في هذا الوقت بالذات، وشرقنا العربي يعج بالثورات وهي في عنفوانها ضد الاوضاع الشائنة والتخلف الاجتماعي، (...) وضد التجمع الانكلو أميركي الاسرائيلي الذي أخذ يتفاقم لضرب الدول العربية المتحررة ولتثبيت النفوذ الاستعماري في المنطقة كلها.
رأيت والحالة هذه المباشرة في نشر كتابي هذا علني أسهم قدر طاقتي في المد الثوري فألقي أضواءً على حقائق مجهولة للكثيرين من أبناء العروبة عن تلك المنطقة الحساسة وأطلعهم على صورة صادقة لما جرى من الصراع بين القوى التقدمية والقوى المناهضة لكل تقدم واصلاح في ذلك الجزء المغلوب على أمره من الوطن العربي العزيز على قلب كل عربي يؤمن بعروبته.
لقد سجلت جميع الحوادث بأمانة ولا سيما أنني كنت الامين العام لهيئة الاتحاد الوطني، تلك الهيئة التي كانت تمثل بحق وحقيقة الغالبية العظمى من الشعب العربي في البحرين. وكنت بحكم مركزي مطلعاً على جميع مجريات الامور جليلها ودقيقها.
لقد ذكرت الذي لي والذي علي ويعلم الله انني لم أظلم أحداً ولم انقص من قدر اي انسان ساهم وشاطر وعمل من اجل وطنه وبني قومه. وإنني حينما أنوه عما كنت اقوم به من نشاط فلست أعني أنني كنت الوحيد في الميدان، بل هنالك اخوة لي ناضلوا معي ونالهم شرف السجن والابعاد كما نالني، فمنهم من لا يزال يصول ويجول على طريقته الخاصة ومنهم من ينتظر ماذا تتـقشع عنه الغيوم المتلبدة في دنيا العرب ومنهم من قضى نحبه وقد رضي الله عنهم ورضوا عنه. ثم انني لن ابخس حق زميلي في النضال اللذين شاركاني الاسر والابعاد وحرموا من الوطن كما حرمت منه وهما المناضل الاستاذ عبدالعزيز الشملان والحاج عبدعلي العليوات. ثم ما من أحد في البحرين أو الخليج العربي ينسى الزميلين المجاهدين الحاج ابراهيم فخرو والمرحوم ابراهيم بن موسى رحمه الله رحمة واسعة. لقد أدى هذان المناضلان الامانة التي كانا يحملانها لوطنهما بنزاهة واخلاص وتضحية. فلهما الأجر والثواب عند الله. ولهما الاكبار والاجلال عند من يعرف فضلهما ويقدر صبرهما وتضحياتهما ولا يعرف الفضل الا ذووه.
لقد بدأت بنبذة موجزة عن حياتي قبل دخولي المعركة الحقيقية من الكفاح المستمر ضد الاوضاع الشائنة السائدة في وطني، وهدفي من وراء ذلك إعطاء القارىء فكرة عن حياتي الخاصة قبل تشرفي بتسلم لواء المعارضة في وطني من أجل حياة كريمة لبني وطني في البحرين وبني قومي في الخليج العربي كله.
ثم تبدأ قصة الكفاح وتتتابع الفصول لتقص الصراع غير المتكافىء بين طلاب حق عزَّل لا سلاح لهم الا ايمانهم بعدالة قضيتهم، وبين عدو جبار مخادع مكار يملك كل اسباب القوة ووسائل التحدي وأفانين الإغراء حتى تمكن بالاغراء المادي وبقوة حديده وناره القضاء على تلك الحركة الاصلاحية في البحرين في السادس من نوفمبر العام 1956 فاعتقل من اعتقل من زعماء هيئة الاتحاد الوطني، وأبعد من أبعد من خيرة شباب البلاد الواعي وشتتهم في كل بلد. وحيا الله الاخوة الأشقاء في امارات الخليج العربي فانهم قد فتحوا صدرهم لمن شتت من المواطنين على يد المستعمر الغاشم وزبانيته فاحتضن معظمهم الكويت الشقيق واسهمت الشقيقة قطر اسهاماً فعالاً واحتضنت الشقيقة دبي الباقي من المواطنين المشردين. والحمد لله فانهم أينما حلوا كانوا محل ترحاب ينزلون اهلا ويحلون سهلا ويعاملون كما يعامل المواطن العربي في تلك الامارات العريقة في عروبتها.
لم يكتف المستعمر(بما ارتكب...) في حق هذا البلد الطيب من القضاء على الحركة الوطنية بل (بل بقي في طغيانه...)، فأعلنوا حالة الطوارىء في البلاد وكمموا الافواه وملأوا المعتقلات بالابرياء من المواطنين وامتلأت البلاد بالجواسيس والمخبرين وأوقعوا الرعب في المواطنين، حتى أخذ الشخص يستريب من اخيه وابنه خشية الوشاية به فيما لو عبر متذمراً عن الوضع الذي يعيش فيه بزفرة أو دمدمة خفيفة، وأخذ الناس لا يتحدثون الا همساً حتى في شؤونهم الخاصة، واضطروا إلى ان يتزلفوا للكبير والصغير من ذوي النفوذ حتى ولو كان شخصاً تافهاً لكنه من أذناب ذوي النفوذ والسلطان.
ولعل خير ما يعبر عن الاوضاع الشائنة والسائدة في البحرين في أيامنا هذه (...) حينما اطلقت (السلطة...) النار بوحشية على المتظاهرين من عمال وطلبة. فقتلت العشرات من خيرة الشباب وجرحت المئات وزجت بعشرات المئات في المعتقلات كل ذلك بغية اسكات ذلك الشعب الثائر على الأوضاع السيئة التي حلت الدمار والخراب بالبلاد.
لقد كانت للانكليز خطة مدروسة قبل العدوان الثلاثي على مصر، بإنزال قوات في البحرين تكون مثابة قاعدة لحلف بغداد حينذاك، وكان متفقاً أن تضم الكويت للعراق تحت التاج الهاشمي وتوحد بقية امارات الخليج العربي: البحرين، قطر، وامارات ساحل عمان تحت اتحاد فدرالي يرأسه عبد الاله على أن تكون البحرين عاصمة الاتحاد والقاعدة الرئيسية لحمايته. الا أن الله خيب آمال المتآمرين فجاءت حوادث السويس ثم التطورات التي حصلت فيما بعد من قيام الجمهورية العربية المتحدة الى ثورة 14 تموز في العراق فقلبت المخططات الاستعمارية رأساً على عقب.
ولعل القارئ الكريم يلاحظ في الفصل الثالث من هذا الكتاب كيف كانت بريطانيا متخوفة من اتصالنا بمصر وبأي بلد عربي متحرر خلال اسئلة المحقق البريطاني الذي انتدب من حلف بغداد للغاية ذاتها. وكيف كانت معظم أسئلته تدور على نشاطي في الخارج. كأنما الامور الداخلية لا تهمهم كثيراً وهم يعلمون عنها انما ارادوا أن يعرفوا مدى عمق اتصالاتي مع المسؤولين في جمهورية مصر. وكان الانكليز حسب التقارير الكاذبة التي يتلقونها يعتقدون بأن هناك مخططاً مدروساً خطط في مصر وينفذه أعوان جمال عبدالناصر في البحرين. وحيث ان البحرين كانت حينذاك مركز الثقل في الخليج العربي كله، كانت تتخوف أن يتحول الامر الى منطقة الخليج حتى تعم الثورة جميع أنحائه. بينما الحقيقة والواقع لم يكن هناك شيء من هذا القبيل.
بدأ الانكليز إبان العدوان الثلاثي على الشقيقة مصر بإنزال قواتهم على نطاق واسع بالرغم من معارضة شعب البحرين وقرروا البقاء الدائم في البحرين فأنشأوا المعسكرات وأقاموا الثكنات وأشادوا المطارات وشيدوا العمارات وعمروا الموانئ ليستقروا طويلا في تلك الجزيرة وليجعلوها قاعدة للعدوان على أي بقعة من الوطن العربي كما فعلوا ذلك من قبل إبان الحربين العالميتين حينما وجهوا حملتهم على البصرة إبان العهد العثماني ووجهوا ضربتهم للقضاء على ثورة العراق الشقيقة في العام 1941 وكما فعلوا ومازالوا يفعلون بضرب الحركات التحريرية في عمان والجنوب المحتل.
لقد تمكن الانكليز ومن لف حولهم أن يناموا على حرير بعد أن قضوا على هيئة الاتحاد الوطني وتشريد المواطنين المناضلين فليس هناك بعد التـنكيل بالاحرار من يرفع عقيرته بالشكوى أو التذمر وليس هناك من يفضح لهم خططهم ومخططاتهم الاستعمارية.
فإذا ما جف الزرع ويبس الضرع ولت مدبرة حاملة ما تملك الى بلد تجد فيه المرتع الخصب. وقد شاهدنا بأعيننا كيف أن أمثال هذه الطبقة فرت من مصر وسوريا والعراق مهربة أموالها لما أخذت سياط الاشتراكية تلهب ظهرها.
أما عن قصة حياتي في سجن سانت هيلانة وجميع ما تم خلال خمس سنوات في ذلك السجن البغيض فقد دأبت على تسجيل كل حادث بتاريخه. وكنت أدون بعض ملاحظاتي عن أهم الامور التي تجري في البلاد العربية والمرتبطة بصميم المعركة. وقد اوردت نبذاً من بعض انطباعاتي وآرائي لأطلع القارئ على مدى اهتمامي بالقضايا العربية الهامة ولئن جاء بعضها الآن لا يتفق مع الواقع، لكن بعضها الآخر مطابق لما حدث في ذلك الوقت وما يحدث الآن في بعض البلاد العربية.
ومع ذلك فانها انطباعات كتبت في ظروف معينة إذ كنت شبه معزول عن العالم كله ولم أكن متفهماً ما يجري بالمعنى الصحيح، ولكني مع ذلك اعتقد اني كنت اعالج قضايا لو كتب لها أن تنشر في حينها لأفادت بالشيء الكثير.
لقد أوردت جميع الرسائل المتبادلة بيني وبين المستر جسورث وهو عضو بارز في بلدية لندن وله الفضل الأكبر في إثارة قضيتنا وعرضها على الرأي العام البريطاني والعمالي. إذ في تلك الرسائل استوفيت جميع النقاط المتعلقة بقضيتنا.
انني لا أريد أن أشيد بما أفادت به الحركة الاصلاحية في البحرين لا في منطقة الخليج العربي فحسب بل حتى في السعودية، ولا أريد أن أنوه بالمفعول الجبار الذي أحدثته صحافة البحرين الحرة في ذلك الوقت، ولا ريب أن الحقائق تتكلم عن نفسها في كل زمان ومكان، وهناك الكثير من المنصفين في منطقة الخليج العربي والشرق العربي كله الذين يعترفون بأن الفضل الأكبر لدفع عجلة الاصلاح في تلك المنطقة يعود أولا وأخيرا للحركة الاصلاحية التي قامت في البحرين، ويعود ذلك للصحافة العربية الحرة التي كانت تصدر في البحرين كمجلة صوت البحرين وجريدتي القافلة والوطن.
وحسبنا أن يطلع القارئ على نبذة مختصرة من البيانات التي كنا نصدرها والمذكرات التي تبودلت بيننا وبين وزارة الخارجية البريطانية، حتى يحكم بنفسه على مدى ما كانت تتمتع به تلك الحركة الاصلاحية من شعبية منقطعة النظير وما تنشده من تحقيق مطالب عادلة تعطي ما لله لله وما لقيصر لقيصر. ومن المؤسف جداً ان تنجرف اقلام بعض المخلصين بدون تفهم للحقائق فينعتون حركة 54- 56 بأنها حركة بورجوازية لم تتغلغل بين جماهير الشعب. وهذا خطأ فادح لا بد أن يكفروا عنه بعد قراءتهم لهذا الكتاب.
إنه لزاماً علي بعد أن انهيت كتابي، أن أتقدم بمقترحات عملية لمنطقة الخليج العربي، كمواطن أصيل ينتمي الى تلك المنطقة، فلعل فيما أورده ما ينبه كل الاطراف المعنية لتجمع أمرها وتوحد كلمتها وتوفق بين مصالحها وصالحها في سبيل حياة مزدهرة لتلك المنطقة التي تنعم بالخيرات وتحتاج الى أيد أمينة متآزرة وعقول نيـّرة مدبرة لاستثمار تلك الخيرات لصالح الشعب العربي في منطقة الخليج العربي بل لصالح الشعب العربي في كل مكان.
العودة إلى الوطن
عدت من شرق إفريقيا الى وطني البحرين بعد أن رأيت ألا جدوى من بقائي في منطقة لاقيت فيها المتاعب الجمة إثر الخسائر المادية التي منيت بها حيث أخذت المصائب تتتالى عليّ بعد نشوة الارباح الطائلة التي اكتسبتها ابان الحرب، والسعادة التي غمرتني طيلة أربعة أعوام، طرأت بعدها حوادث ذات أهمية كبرى: عندما نصحني أحد التجار الذي كنت أشتغل معهم في التجارة بأن أغادر زنجبار... بعد أن أخذت المخابرات البريطانية تلاحقني على إثر الخطب الحماسية التي كنت ألقيها في الاجتماعات الشعبية في زنجبار ودار السلام لتأييد فلسطين الذبيحة ومناوأة الدول الاستعمارية التي خلقت المسخ المسمى «اسرائيل» ومطالبتى بمقاطعة سفن أمريكا وبريطانيا وفرنسا وبضائعهم. فرأيت أن من الأفضل مغادرة البلاد قبل أن يطلب من ذلك رسمياً وفعلاً نفذت ما اعتزمت عليه وغادرت زنجبار الى ممباسا ثم بمباي ومن هناك الى البحرين .
وأذكر بهذه المناسبة أنني لما ألقيت خطابي في الجماهير الحاشدة في زنجبار بمناسبة خلق المسخ المسمى «اسرائيل» واعتراف الدول العربية بها قال لي أحد كبار الانكليز وكان حاضراً الاجتماع: كنت أتصور أن هتلر قد مات ولكن يظهر لي أنه بعث من جديد في شخصك... ثم أضاف بكل هدوء: ليت قومك أعدوا عدتهم قبل فوات الأوان. إن الدول السبع التي تذكرها ليست إلا دمى يحركها موظفون عاديون في الاستخبارات البريطانية! أقول لك يا صديقي إن فلسطين ضاعت من أيديكم ومن يدري فقد يطول بكم الأمد لاسترجاعها، مالم تحدث معجزة وتتغير الأوضاع في بلادكم وتصبحوا بعد ذلك أصحابها الشرعيين. أما الآن فلا جدوى من الصراخ وستسمع عن قريب بأن «اسرائيل» فرضت على العرب بالقوة. وفعلاً ، لقد تم ما قاله الانكليزي، لأنه عليم ببواطن الأمور.
إبان ذلك العهد كنت أحمل طيلة أسفاري تذكرة مرور من القنصلية البريطانية بصفتي من رعايا قطر ويعود ذلك الى عام 1933 حين نزحت مع عائلتي الى قطر بعد أن أصيبت بنكسة مالية أفقدتها كل ما تملك في البحرين، فلم يبق لها إلا أن تعود إلى موطن الآباء والأجداد في قطر خلال تلك الأعوام... أعوام ما قبل الحرب وجدت أن قطر لا يمكن أن تصلح لي فسافرت الى دبي وأخذت أمتهن تجارة اللؤلؤ ولحقني والدي بعد ذلك وأذكر أنني أخذت أزاول نشاطي مع شباب من الشارقة ودبي. وأذكر كيف أننا أصدرنا نشرة يومية كنا نكتبها باليد سميناها (صوت العصافير) وكنا ننتقد فيها الأوضاع المحلية بأسلوب لاذع ونهاجم الاستعمار البريطاني الذي بدأ يثبت أقدامه في الشارقة، حين عين السيد عبدالرزاق ارزوقي وهو كويتي الجنسية ليكون ضابطاً سياسياً لساحل عمان وكان هذا الرجل في ذلك الحين عبداً من عبيد الاستعمار البريطاني وكان وحده أقوى من أية مدمرة حربية في ذلك الحين. وقد لعب دوراً مشيناً في ساحل عمان. وأمات الروح القومية المتوثبة في تلك المنطقة والتي أججها تأثر معظم امارات ساحل عمان بوثبة العراق بعد استقلاله، تلك الروح التي انتجت تكوين المجلس التشريعي وانتهاج سياسة عربية صرفة كادت تنجح، لو تم لها البقاء ولم يتألب عليها المستعمر والرجعية وأعوانهما من كل جانب ويقضوا عليها، ولو قدر لذلك المجلس عمر أطول لتقلص النفوذ الاستعماري والشعوبي من ساحل عمان. ولكن السيد عبدالرزاق تمكن بأموال الحكومات الرجعية التي كانت تدفع لحبك الدسائس والقضاء على الوثبة النامية في مهدها أن يخدع مانع بن مكتوم وجماعته ويدعهم ينامون على فراش من حرير حتى ظنوا أنهم في مأمن من الإنكليز إلى أن جاءتهم الضربة من حيث لم يحسبوا. ويعلم الله أنني نبهتهم في عام 1938 قبل أن تحدث الحوادث المفجعة ألا ينخدعوا بالانكليز لأن وراء إغماضتهم وتساهلهم أمراً يدبرونه للإطاحة بمانع ورفاقه. ولكن مانعاً رحمه الله كان كثيراً ما يعتد بنفسه الى درجة أنه كان يقول ان بإمكانه محاربة الإنكليز وحده.
نعم لقد قضي على ذلك الرضيع وهو في مهده. وكم كان أملنا وأمنيتنا... أن تمضي دبي متآزرة مع الكويت وتحذو حذوها البحرين فيما بعد، عندما تجمع أمرها تحت قيادة مؤمنة بصالح الشعب حتى تكون نواة لحياة أفضل للمنطقة كلها. وبداية لاتحاد إمارات الخليج العربي مع العراق إبان نهضته التي قضى عليها نوري السعيد وأعوانه وحولها لصالح المستعمر والرجعية في المنطقة العربية.
وبالرغم من تقدم البحرين العلمي والحضاري على كلا الامارتين في ذلك الوقت، الا أنها لم توفق الى قادة شعبيين يمكنهم جمع الكلمة ووحدة الصف للانضمام مع أبناء عمومتهم في الكويت ودبي ضمن إطار اتحاد يزيل الحواجز التي صنعها المستعمر واذنابه. اذ لم تكن الحركة التي قامت في البحرين في عام 1938 ذات طابع وطني أو اجماعي، إنما كانت ذات مصالح شخصية قام بها نفر موتور اندفع العمال وراءهم ظناً منهم أنهم يعملون للصالح العام(...) ولهذا لم يكتب لتلك الحركة النجاح ولو مؤقتاً كما حصل في الكويت ودبي اذ تمكن شعب الامارتين من تأسيس مجلس تشريعي وإدارة دفة البلاد لولا أن الاندفاع اللاعقلي من قبل المتحمسين من المشرفين على التنظيم في البلدين قضى على تلك الحركة حينما رأى الانكليز وهم أصحاب الشأن والكلمة العليا أن يقضوا عليها فأمروا حكام الإمارتين باستعمال العنف وكان ما كان من أمر المجلسين وعادت الرجعية تستشري في المنطقة تساندها حراب الانكليز الى يومنا هذا.
ونعود للسيد عبدالرزاق الذي أثرى ثراء فاحشاً طيلة اقامته في ساحل عمان، ولكن الله انتقم منه فيما بعد فعزله الانكليز بعد ان استنفذوا غرضهم منه وخسر كل ثروته ولولا اريحية شعب الكويت وتجارها الذين سارعوا الى مساندته بحكم أنه كويتي والكويتيون غيورون على مواطنيهم فساعدوه وشدوا أزره حتى استرجع بعض الذي فقده لأصبح اليوم فقيراً معدماً.
السفر من دبي
لما وجدت أن دبي ليست الارض الصالحة لانماء ثروتي بالنسبة لضآلة رأس المال استأذنت والدي في السفر الى شرق إفريقيا بواسطة السفن الشراعية فوافقني على تلك الفكرة، واتفقت على ذلك مع صاحب سفينة شراعية صغيرة حمولتها خمسون طناً وكل الذي كان معي هو تسعمئة روبية. فاتفقت معه على أن تكون السفينة تحت إمرتي الى ميناء زنجبار اشحن فيها من البضائع ما أشاء وأتوجه الى أي ميناء من الموانئ في طريقي الى زنجبار وأبيع وأشتري كل ذلك مقابل أن ادفع له في زنجبار الفاً وخمسمئه روبية. وكانت الروبية في ذلك الوقت لها قيمتها بالنسبة لرخص الاشياء فالروبية في ذلك الزمن تعادل عشر روبيات في وقتنا هذا.
أبحرت من ميناء دبي وكان ذلك في نهاية عام 1934، وتوجهت الى ميناء الخابورة في ساحل عمان التابع لسلطنة مسقط وعمان. وهناك اشتريت تمر «الفرض» وهو نوع من التمر الممتاز رائج في أسواق افريقيا، ثم بعد ذلك توجهت الى صور موطن صاحب السفينة ومكثنا هناك مدة قصيرة ثم توجهنا في طريقنا الى سقطرة ثم الى حافون وهو أول ميناء للصومال الايطالي المتجه نحو افريقيا، وصادف أن كانت حكومة ايطاليا تعد نفسها لحرب الحبشة في ذلك الوقت وكانت جميع المرافق الحيوية والمعيشية بيد حاكم المنطقة فاشترى مني جميع البضائع التي كانت معي من تمر وغيره وكانت سفينتي أول سفينة تفتح الموسم كما يقولون، وربحت أرباحاً طائلة نتج عنها أن أخذ صاحب السفينة يحسدني على تلك الارباح وهو يعلم رأس مالها ويعلم أنني ربحت حوالي خمسة عشر ألف روبية. وبعد مكوثنا بثلاثة أيام جاء الى ميناء «حافون» السيد عبد الرزاق بن عيسى القطامي من الكويت في سفينة كبيرة حمولتها اربعمئة طن وكانت مشحونة بالتمر. وكان يريد أن يبيع التمر ليشحن ملحا الى ممباسا وزنجبار، فاشتريت منه تمراً بصرياً قدر ما تسع سفينتي وتوجهت الى الموانئ الصغيرة وهناك بعت التمر في هوبيا من الساحل الصومالي واشتريت من هناك جلودا وسمناً وغير ذلك وتوجهت بعد ذلك الى مقديشو وصادف أنني كنت اشتريت بعضاً من الاقمشة في حافون وصرفتها في مقديشو مع الجلود وغيرها، واشتريت من مقديشو سمناً وأشياء أخرى وتوجهت رأساً الى زنجبار فوصلتها وبعد حسابي من حصيلة تلك الرحلة تبين لي أنني ربحت حوالي 25 ألف روبية وهذا شيء كثير بالنسبة لرأس مالي وهو تسعمئة روبية.
وما أن وصلت زنجبار حتى وجدت والدي قد سبقني الى هناك اذ جاء من الهند وجلب معه بعض البضائع وصرفها.
استغرقت هذه الرحلة الشاقة الممتعة في نفس الوقت من ميناء دبي الى ميناء زنجبار ماراً بتلك البلدان التي ذكرتها حوالي شهر ونصف وقد ربحت فيها هذه الارباح الطائلة.
المصائب والنحس!
الا أن النحس الذي يلاحقني في كل مكان لم يشأ هذه الثروة أن تبقى في يدي فقد أخذها والدي وترك لي حوالي خمسة آلاف روبية لاستأجر سفينة واشتري بضائع وأتوجه بها الى الخليج وأخذ هو المبالغ الباقية.
وأخذت المصائب تلاحقني. أبحرت من زنجبار بعد أن اشتريت بضائع كثيرة، وعرجت بها على مقديشو مرة ثانية وبعت فيها بعض البضائع واشتريت بضائع أخرى ثم توجهت بها الى المكلا والشحر وبعتها بأرباح لا بأس بها وتوجهت بعد ذلك الى سيحوت من بلاد المهرة لشراء زيت السمك الذي تدهن به السفينة الشراعية والسمك المجفف للحيوانات وكانت أسعاره مغرية بالربح في منطقة الخليج. وبعد أن تم لنا شحن كل شيء هبت الريح العاصفة المتوقعة في ذلك الوقت وكانت النتيجة أن تحطم الصاري الكبير وأصيبت السفينة بخرق اضطرنا ...
(يتبع الاسبوع المقبل
العدد 1507 - السبت 21 أكتوبر 2006م الموافق 28 رمضان 1427هـ