مازالت اليابان تعاني من آثار الزلزال والتسونامي اللذين ضربا ساحلها الشمالي الشرقي في مارس/ آذار 2011. فقد ألحقت الكارثة أعطالاً كبيرة بمنشأة فوكوشيما داييشي النووية المتعددة الوحدات الواقعة في ساحل أوكوما على المحيط الهادئ، ما تسبب بأزمة غير متوقعة هددت سلامة قطاع الطاقة النووية. وبناءً على ذلك برهنت شركة الاستشارات الإدارية بوز أند كومباني أن المستقبل الآمن للطاقة النووية يتوقف على ضرورة دمج الدروس المستقاة من كارثة فوكوشيما في التخطيط للعمليات، وفي تطوير قدرات تحليل المخاطر وتحسين أداء إدارة المشاريع.
الاستجابة الفورية ما بعد فوكوشيما
أتت الاستجابة الأكثر فورية للأحداث التي وقعت في فوكوشيما داييشي من السياسيين، حيث مازال الزعماء السياسيون في اليابان يناقشون ما إذا كان يجب الإبقاء على المفاعلات الأخرى في البلاد خارج الخدمة، نظراً إلى تشابه تصميمها مع مفاعل فوكوشيما، بالإضافة إلى الأسئلة المرتبطة بتحديد مواقعها المحلية.
وقف المحطات النووية عن العمل
في غضون شهرين من الكارثة، تم وقف جميع المحطات النووية في اليابان عن العمل، وتطلب الأمر أكثر من سنة لإعادة افتتاح أول محطة في يونيو/ حزيران الماضي. وحذت العديد من البلدان الأخرى سريعاً حذو اليابان، إذ خططت ألمانيا لوقف محطاتها النووية عن العمل بحلول سنة 2022. وحتى في فرنسا، دعا زعيم المعارضة آنذاك والرئيس الحالي فرانسوا هولاند إلى وقف 28 مفاعلاً من أصل 58 بحلول سنة 2025.
وأثرت المفاعلات أيضاً في بعض العروض الخاصة بتوسيع استخدام الطاقة النووية التي اكتسبت زخماً واسعاً خلال الأعوام الماضية. فقد قررت العديد من البلدان وقف جميع أعمال البناء الجديدة في هذا الإطار، فيما بلغت نسبة التأثير الصافية لوقف المفاعلات النووية عن العمل نحو 15 في المئة من القدرة الحالية – بصورة مؤقتة على الأقل – مع نهاية العام 2011.
وقال جورج صراف وهو شريك في بوز أند كومباني: «تفاوتت ردود الفعل في الشرق الأوسط حيال حادثة فوكوشيما. فبينما أخّرت بعض البلدان أو وضعت جانباً برامج الطاقة النووية المعلنة الخاصة بها، مازالت بلدان أخرى ماضية قدماً في هذا السبيل. وتعتبر الإمارات العربية المتحدة وخصوصاً أبوظبي في أكثر المراحل المتقدمة، إذ أنجزت مؤسسة الإمارات للطاقة النووية التي تخطط لبناء أربعة مفاعلات بقدرة إجمالية تبلغ 5.6 جيغاواط سيبدأ تشغيلها تدريجياً في سنة 2017، مرحلتين رئيسيتين في الجدول الزمني للمشروع في وقت سابق من السنة الجارية. فقد نالت المؤسسة الموافقة القانونية ومنحت عقود المشتريات لشركات عالمية مختلفة لتزويدها بالوقود النووي لمدة 15 عاماً من التشغيل وقد قامت بدمج الدروس المستقاة من فوكوشيما بكل جدية. ويعود جزء كبير من هذا التقدم إلى اعتماد دولة الإمارات العربية المتحدة لأعلى معايير السلامة والأمان والشفافية وحظر الانتشار. وبناءً على النهج الحذر والآمن المتبع من قبل الدولة فتعد الدولة نموذجاً يحتذى به إقليمياً وكذلك من قبل المنظمات الدولية». وأضاف «فعلى رغم غنى دولة الإمارات العربية المتحدة بالنفط والغاز، مازالت ترى في الطاقة النووية مصدراً آمناً للطاقة وفعالاً من حيث الكلفة وضروري أيضاً لإنتاج المياه».
وأوضح «كما تشكل الطاقة النووية فرصة لتحرير موارد النفط والغاز لأغراض التصدير واستخدامات أخرى ذات قيمة مضافة، وكذلك لتحقيق نمو محلي ولتنويع مزيج الطاقة عبر اعتماد مصادر طاقة مستدامة جديدة».
على مفترق طرق
في أعقاب الأزمة، تداخلت ردود فعل الرأي العام والسياسيين. ففي حين رأى البعض أن دور التكنولوجيا النووية كمصدر مستمر للطاقة قد تقلّص، اعتبر البعض الآخر الكارثة كظاهرة محددة المكان وبعيدة الاحتمال بدرجة عالية ولها انعكاسات محدودة في المدى الطويل.
وعلى رغم النكسات، مازال التاريخ الطويل للقطاع النووي نموذجياً على المستوى العالمي. ففي الوقت الراهن، تستحوذ الطاقة النووية على 368 جيغاواط من القدرة المركبة. وأشار توم فلاهيرسي، وهو شريك أول في بوز أند كومباني، إلى أنه «نظراً إلى هذه المساهمة الكبيرة، يتعين على صانعي القرار – بمن فيهم المسئولون الحكوميون والجهات التنظيمية والمسئولون التنفيذيون في القطاع النووي – اعتماد مقاربة واقعية للاستجابة لكارثة فوكوشيما في المدى القصير والطويل على حد سواء».
رسم مسار جديد
نتيجة للأزمة، تمحور التركيز بدرجة كبيرة على إصلاح العملية التنظيمية النووية، فشددت العديد من البلدان على السلامة وأنشأت هيئة تنظيم الطاقة النووية الأميركية – التي تعتبر رائدة عالمياً في الإشراف على الطاقة النووية – فرقة عمل قصيرة الأجل خاصة بأزمة فوكوشيما داييشي والتي أنجزت مراجعتها في يوليو/ تموز 2011.
إطار تنظيمي ملائم
«ترتكز توصيات هيئة تنظيم الطاقة النووية الأميركية على مبدأ «قاعدة التصميم» الذي شكل طويلاً ركيزة أنظمة مفاعلات الطاقة النووية»، بحسب الشريك في بوز أند كومباني كريستوفر دان الذي أضاف أن هذه الأنظمة «تتضمن متطلبات أكثر صرامة لتصميم وبناء المحطات النووية، بهدف ضمان تحملها حوادث أكثر خطورة من حادثة فوكوشيما من دون التسبب في خسائر في الأنظمة والهياكل والمكونات الضرورية لتأمين الصحة والسلامة العامة».
وتضمنت الأوامر الأولى لهيئة تنظيم الطاقة النووية الأميركية ما يلي:
- وضع إطار تنظيمي منطقي ومنهجي ومتناسق.
- ضرورة قيام الجهات المرخص لها بإعادة تقييم وتحسين أنظمة الحماية من الزلازل والفيضانات القائمة على مبدأ قاعدة التصميم.
- تقييم إجراءات التحسين المحتملة طويلة المدى للقدرة على الوقاية والحد من الحرائق والفياضات التي تسببها الزلازل.
في حين أن القطاع النووي يدعم هذه الأوامر الثلاثة، فالرؤية غير واضحة من حيث الكلفة النهائية لتنفيذ الإصلاحات الكاملة في التجهيزات والوسائل والبرمجيات، وحيال مدى القدرة على إدارة المتطلبات المستقبلية وتكلفتها.
ويتجسد التحدي الحقيقي لاقتصاديات الطاقة النووية في الأسعار المتدنية الحالية للغاز الطبيعي وليس في متطلبات السلامة الجديدة. ففي حال نفذت بلدان أخرى أنظمة مشابهة، سيتضمن التخطيط لمستقبل الطاقة النووية تعديلات في التصميم وخطوات إدارية معززة.
وأضاف دان في هذا الإطار أن «على قطاع الطاقة النووية تحسين فهم المخاطر التشغيلية وانعكاساتها على مستوى المحطات والمؤسسات، مع التركيز على الوقاية وعلى الاستجابة المحسّنة. كما يجب تعزيز قدرات إدارة المشاريع لتوفير الجيل التالي من الوحدات النووية الجديدة بنجاح. وتتطلب هذه القدرات مزيداً من الشفافية في إجراءات صنع القرار في القطاع. وبينما سيشكل هذا الأمر تحدياً، فسيوفر أيضاً فرصة للقطاع لإظهار التزامه بالإدارة الفائقة للمخاطر والتصميم والتخطيط والتنفيذ».
الدروس في إدارة المخاطر
بعد فوكوشيما، يجب أن تتغير طريقة تقييم القطاع للمخاطر، ويجب زيادة مرونة الجهات المالكة وقدرتها على الاستجابة، كما يتوجب على المشغلين وضع منهجيات معززة لتحليل المخاطر.
ويتعين على القطاع تعزيز منهج ياتهو تحسين الإجراءات والأدوات الحالية – للمساهمة في تحديد المخاطر المحتملة. ويجب توسيع نطاق التفكير التقليدي في «الأمور المجهولة المعروفة» لتتضمن «الأمور المجهولة غير المعروفة»، الأمر المفيد في توسيع نطاق تفكير القادة عند تقييم المخاطر ونقاط الضعف.
ويقضي الهدف النهائي بوضع مقاربة على مستوى القطاع لتحديد الأحداث البعيدة الاحتمال القريبة بمستواها من حادثة فوكوشيما وقياسها، ما سيفي بالمتطلبات التنظيمية للسلامة ويهدئ من مخاوف الرأي العام على السواء، مع كونها قابلة للتنفيذ وفعالة من حيث الكلفة. وهناك مقتضى إضافي يتضمن تشجيع وبناء مرونة المحطة والمؤسسة والقطاع الضرورية لتحمل مثل هذه الأحداث غير المتوقعة.
مستقبل الطاقة النووية
بهدف المحافظة على المصداقية في المدى الطويل، يجب أن يبتعد القطاع النووي أقل ما يمكن عن مستويات الاستثمار المخططة وجدولها الزمني. وفي حال فشلت المشاريع الموضوعة حالياً في تحقيق توقعات أداء التكلفة والجدول الزمني، فستضعف القدرة على بناء الجيل التالي من محطات توليد الطاقة النووية.
ومن حسن الحظ فإن النهضة النووية – الانتعاش الاقتصادي لقطاع الطاقة النووية – قد بدأت ببطء لأنها تعطي فرصة للجهات المالكة ومصنعي التجهيزات ومجموعات الهندسة والمشتريات والبناء ووقتاً إضافياً لتحسين الإجراء والأداء.
ورأى فلاهيرسي أن «البناء الناجح لمحطة نووية يرتكز على قدرة الجهات المالكة على تعميم قدرات فاعلة لإدارة المشروع، بما في ذلك تخطيط المشروع وتقييم معدل التقدم والإشراف المباشر، فضلاً عن مقاييس الأداء المفصلة وإجراءات إعداد التقارير المعمقة الضرورية لتحقيق نتيجة ناجحة للمشروع. فمن شأن الإطار المرن لقدرات المشروع الذي يشمل جميع الأنشطة المطلوبة لإتمام البناء أن يوفر للجهات المالكة نموذجاً لنجاح إدارة البرنامج».
ولن يضمن إطار إدارة المشروع المصمم بشكل جيد وحده النجاح، إذ يتعين على الجهات المالكة أيضاً تخطي القيود المفروضة على الموارد وكذلك على صرامة الإجراءات وتدابير المراقبة وعدم تلاءم البنية التحتية.
ويتعين على القطاع النووي تطمين الجهات التنظيمية والرأي العام على حد سواء بأن المحطات النووية العاملة حالياً آمنة، وهذا يتحقق فقط في حال كان القطاع يرغب في الانتقال إلى نظام أكثر صرامة. ويجب أن يتذكر القادة في هذا القطاع وسواهم سجل إنجازاته كنموذج للعمليات الآمنة والموثوق بها لعقود طويلة، الأمر الذي سيوفر الركيزة السياسية الضرورية لضمان الدور المستقبلي للطاقة النووية. وستحتاج الجهات المالكة والمشغلون لقدرات ذكية لإدارة المخاطر وذلك كي يتم تنفيذ المشروع بصورة فعالة وعالية لبناء الجيل التالي من المحطات النووية وفق الكلفة المحددة والجدول الزمني المطروح، فضلاً عن تحقيق مستويات عالية من الجودة في البناء والعمليات، ويشكل بناء هذه القدرات خطوة أساسية في إرساء «حق تصرف» في توليد الطاقة وتمكين مستقبل القطاع.
العدد 3705 - الأحد 28 أكتوبر 2012م الموافق 12 ذي الحجة 1433هـ