يعرف النقد الثقافي في العالم العربي رواجا كبيرا ومطردا بين الباحثين والدارسين والمعنيين بالثقافة. فمنذ كتابات المفكر المغربي محمد عابد الجابري، خصوصا كتابه «العقل السياسي العربي» الذي قدم فيه تحليلا للمتخيل الاجتماعي والثقافي وأثره على العقل السياسي العربي، مرورا بالأبحاث المميزة التي قدمها الباحث المغربي محمد نور الدين أفاية خصوصا كتابه»الغرب المتخيل: صورة الآخر في الفكر العربي الإسلامي الوسيط»، والذي قارب فيه أسئلة الهوية والاختلاف، الذات والآخر من منظور يتغير، من خلال الإمساك بتاريخية هذه المقولات، وضع مقاربة جديدة لا تعيد إنتاج الالتباسات القائمة، وإنما تسهم في تشييد نوع من الفهم الذي يتلاءم والتحولات العميقة التي تشهدها الثقافة وهجرة الأجساد والصور والرموز، فضلا عن دراسات لنقاد وباحثين، كعبدالوهاب المسيري وجورج طرابيشي في دراساته الأخيرة ونصر حامد أبو زيد وعبدالفتاح كيليطو ومحمد أنقار، والاهتمام بالثقافة والممارسات الخطابية يزداد اتساعا بين المفكرين والدارسين. وهذا ما شكل مساحة بينية مميزة أصبحت تلتقي عندها الكثير من الجهود النظرية والتحليلية رغم ما بينها من اختلافات في المنهج والنظريـة.
ولا شك أن كل ذلك هو ثمرة جهود مضنية وشاقة بذلت من أجل إعادة تعريف النصوص وتبيان طبيعتها وعلاقتها بالأنساق والممارسات المختلفة، متأثرة في ذلك بما حدث في الغرب مع مفكري ما بعد البنيوية مثل ميشيل فوكو وجاك دريدا وفرانسوا ليوطار وإيهاب حسن وجياني فاتيمو وهابرماس وإدارد سعيد، ومع باحثين أنثربولوجيين كالفرنسيين جيلبير دوران وجون غارسان والأميركي كليفورد غيرتز.
ومع مطلع هذا القرن أصبح الاهتمام بالنقد الثقافي والدراسات الثقافية والدراسات ما بعد الكولونيالية يحظى باهتمام مميز وبارز. سواء من حيث توجه المجلات المتخصصة إلى نشر دراسات وأبحاث وترجمات تندرج في هذا الاتجاه، أو جنوح بعض المعاجم العربية المتخصصة في المصطلحات والمفاهيم إلى إدراج النقد الثقافي والدراسات الثقافية ضمن موادها أو من حيث الكتب والمؤلفات التي تتبنى مقترحات الدراسات الثقافية وتعلن عن ذلك صراحة من خلال عناوينها. ويمكن في هذا السياق أن نشير إلى أعمال ندوة المركز الثقافي العربي وكتابات الناقد عبدالله إبراهيم والكتاب الذي أصدره الناقد عبدالله الغذامي بعنوان «النقد الثقافي» وكذلك كتاب «الشعرية والثقافة» للناقد حسن البنا عز الدين وكتاب «سرد الآخر» للناقد صلاح صالح، فضلا عن الكتاب المهم»تمثيلات الآخر» للناقد نادر كاظم.
تعد الدراسة التي قام بها الناقد البحريني نادر كاظم بعنوان: تمثيلات الآخر. صورة السود في المتخيل العربي الوسيط من أهم المحاولات النقدية العربية وأعمقها استثمارا لمقترحات النقد الثقافي والدراسات الثقافية والدراسات الأنثربولوجية، في دراسة الأنساق الثقافية العربية وتحليلها، وذلك من أجل فهم الذات الثقافية العربية ومستوى تمثيلها للآخر. وتنتظم أبحاث الكتاب في بابين كبيرين، وكل واحد منهما يتشكل من فصلين، إضافة إلى مقدمة وخاتمة وقائمة بالمصادر والمراجع. يحمل الباب الأول العنوان التالي: مرجعيات المتخيل والتمثيل الثقافي، وقد عني فيه المؤلف بتحليل الصور النمطية للسودان كما تجلت في الإنتاج الثقافي العربي الذي يتوزع على حقول متعددة تشمل الجغرافيا والرحلات والتاريخ والطب وعلم البحار وعلم الكلام وعلوم اللغة وعلوم الدين... أما الباب الثاني فعنوانه: الأسود والتمثيل الثقافي التخييلي، اذ تركز فيه الاهتمام على تحليل تمثيلات السودان في الإنتاج العربي الأدبي السردي والشعري.
وما يعطي لهذه الدراسة أهميتها، ليس فقط هو جدة الأدوات التي تقارب بها موضوعها وإنما أيضا، وهذا مهم، خطورة الموضوع الذي تعنى بمساءلته. سيما وأن الثقافة العربية، مثلها مثل سائر الثقافات الأخرى، قد عبرت هي أيضا عن مواقف مختلفة فيما يخص تمثيل الآخر، سواء كان داخليا أو خارجيا. ويلاحظ الباحث أن مجال الآخرية قد اتسم في الثقافة العربية بالتوتر، نظرا لطبيعة الوضع الذي مرت به الثقافة العربية على امتداد حقب طويلة من تاريخها. فبينما كان الآخر في الماضي متعددا ومتنوعا، عاكسا بذلك طبيعة النظام السياسي والاجتماعي للدولة الإسلامية، وما كانت تشهده من تطور يعكس قوتها وقدرتها على الانفتاح والتحاور والتواصل، فإن الآخر في العصر الحديث غالبا ما جرى اختزاله في الغرب بوصفه الغرب المتمدن والحضاري من جهة والمستعمر والعدو من جهة ثانية.
وانطلاقا من هذا التمييز، يستخلص نادر كاظم بأن «الأسود» هو من بين الآخرين المتعددين والمتنوعين الذين عرفتهم الثقافة العربية وقدمت حولهم تمثيلات مختلفة ومتعددة في العصر الوسيط. وإذا كان من ملمح يميز هؤلاء الآخرين عن الأسود، فيتمثل في كون هذا الأخير قد تراكمت حوله تمثيلات ضخمة وقدمت له صور نمطية متعددة «تتحدث عن حيوانيته وشهوانيته المفرطة، وامتدادها بقوة عموديا باستحكامها طوال قرون مديدة، وأفقيا على حقول معرفية متعددة».
وإذا ما تأمل المرء في شبكة المعارف التي استندت إليها الثقافة العربية خلال العصر الوسيط لتركيب الصورة حول آخرها الأسود، فقد يحصل له الانطباع بأنها صورة معقولة ومتناسبة مع الواقع الحقيقي لموضوع التمثيل، بيد أن الأمر جد مغاير، في تصور قارئ عارف بما تكتنزه الثقافة من تحيزات وعلى هذا النحو يرى نادر كاظم أن إعادة الفهم بهذا التمثيل، والكشف عن مظاهر التناقض فيه « يستلزم فحص طبيعة عملية التمثيل هذه بالرجوع إلى تاريخ تكونها ومحدداتها، وباستكشاف المرجعيات والأنساق التي كانت تحكم هذه العملية وتوجهها بصورة لا شعورية، بمعنى أنها تفرض نفسها على الأفراد والجماعات دون أن تمر بوعيهم الفاحص والنقدي بالضرورة».
من هذا المنطلق يطرح نادر كاظم الأسئلة الآتية: ما الذي كان يشكل المتخيل ويعزز شبكة الصور عن الأسود في الثقافة العربية؟ هل السياقات الخارجية التاريخية والاجتماعية؟ أم الأنساق الثقافية التي ينتهجها الإنسان العربي المسلم كالدين واللغة والرمز؟ أم مجموع هذه السياقات التاريخية والأنساق الثقافية معا؟
تنهض الدراسة على ثلاثة مفاهيم مركزية، هي: التمثيل والمتخيل ومسألة الآخر. وهذه المفاهيم ليست مفصولة عن بعضها بعضا إلا لدواع إجرائية. فهي متداخلة ومترابطة. لكنها من جهة أخرى تنطوي على صعوبات كثيرة، قد ينزلق معها التحليل إلى الذاتيـة والانحياز. وهو الأمر الذي بدا نادر كاظم واعيا له حينما تمكن من تقديم تناول ملائم لهذه المفاهيم مكنه من الإمساك بموضوعه والاقتراب من الأنساق التي يتدثر بها نتيجة عوامل وسياقات محددة.
يعتبر المؤلــف في هذه الدراسة أن المتخيل يعد من أهم المفاهيم التي بدأت تتردد بقوة في الكثير من الأبحاث والدراسات التي عنيت بنقد وتفكيك مكونات الثقافة العربية من أجل فهم العناصر الفاعلة فيها والمحركة لنظرتها لذاتها وللآخرين من حولها. فمن كتابات المفكر المغربي محمد عابد الجابري مرورا بمحمد نور الدين أفاية وعبدالله الغذامي وعبدالله إبراهيم وعبدالفتاح كيليطو وأسماء أخرى كثيرة، يتضح أن المتخيل يشكل بؤرة أساسية لانبجاس أي فهم بالذهنية السائدة في ثقافة ما. وذلك لأنه ليس عنصرا خرافيا أو صورا وهمية مثلما جرى التعامل معه في الدراسات التي حركتها نزعة عقلانية اختبارية أو اختزالية، وإنما هو مجال تبادل وتفاعل بين البعدين النفسي والاجتماعي، ويؤثر بصورة جلية في الأفراد والجماعات، ويتدخل بقوة في تركيب الصور حول الذات والآخر.
وعلى الرغم من هذه الأهمية التي يحظى بها المتخيل، فإن الوعي به تميز بالانحسار والمحدودية، بحيث إما نظر إليه من زاوية نفسية صرف كما يتردد الأمر في أبحاث المنظر النفسي سيجموند فرويد أو من زاوية اجتماعية ضيقة كما تكشف عن ذلك الأبحاث المتأثرة بالماركسية والتي تعتبر المتخيل من العناصر التي يقل مفعولها دون تدخل البنية التحتية المحركة للوعي. وعلى هذا الأساس فإن المساهمة التي أعادت الاعتبار بقوة للمتخيل، وقاربته من زاوية شمولية ومركبة هي تلك التي قام بها الأنثروبولوجي الفرنسي جيلبير دوران.
ولعل ما يعاب على الدراسات الأخرى هو أن « كل المحركات اجتماعية كانت من جهة أو تحليلنفسية، التي تقترح لفهم البُنَى الرمزية وتكوينها، تنهج في الغالب نهجا غيبيا ضيقا، فيحاول البعض جعل دوافع الرموز مقتصرة على مجموعة عوامل خارجة عن الإدراك (...) بينما يعتمد البعض الآخر على الغرائز أو على ما هو أسوأ من ذلك، أي الرقابة والكبت»
العدد 1532 - الأربعاء 15 نوفمبر 2006م الموافق 23 شوال 1427هـ