العدد 101 - الأحد 15 ديسمبر 2002م الموافق 10 شوال 1423هـ

أي صحافة... وأي مواطن هذا الذي يتعيّن أن نحميه من الصحافة؟

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

في معرض دفاعه عن قانون تنظيم الصحافة والطباعة والنشر، أكد وزير الإعلام نبيل الحمر أن هذا القانون «متوازن يعطي الصحافيين الحرية ويحمي المواطن في الوقت نفسه». وإذا كان القانون الآن في طور المراجعة بمشاركة الوزير أيضا، فإن المقولة تستدعي التوقف وخصوصا الحديث عن «حماية المواطن». وإذا كانت الاعتراضات على القيود التي فرضها القانون على الصحافيين قد طرحت بقوة وكانت السبب وراء استجابة الحكومة لإعادة صوغ القانون بمشاركة أهل الشأن، فإن «حماية المواطن» في قانون الصحافة والطباعة والنشر بقيت جملة معلقة لم تستوقف الكثيرين، في حين ان من شأنها ان تؤسس لمفاهيم جديدة في نظرة الحكومة إلى قطاع الصحافة والدور الذي يمكن ان يلعبه في المرحلة المقبلة.

إن «حماية المواطن» مفهوم جديد تماما يطرح للمرة الأولى في موضوع علاقة الصحافة بالمجتمع عموما وعلاقتها بالمواطن خصوصا، جدة هذا المفهوم وطرحه للمرة الأولى تبريرا لقانون أجمع الصحافيون على انه مخيب للآمال، يدعوانا إلى مناقشة هذه العلاقة المفترضة بين الصحافة والمواطن وهي العلاقة التي لم تطرح على نحو جدي من قبل.

إن مقولة «حماية المواطن» بقانون للصحافة أو من خلاله، تستتبع سؤالا أساسيا: هل تمارس صحافتنا أي انتهاك لحريات المواطنين أو حياتهم الخاصة مثلما تفعل صحف الفضائح مثلا إلى الحد الذي يستلزم اصدار قانون يحمي المواطنين من الصحافة أو من «قدر هائل مفترض من الحريات» المتاحة أمام الصحافيين؟. ما الصورة التي يظهر فيها المواطن في الصحافة المحلية؟.

إذا كان مؤسسو الصحافة البحرينية الأوائل مثقفين طليعيين مثل عبدالله الزايد وكل أولئك الذين دخلوا غمارها فيما بعد، فإن الظروف التاريخية التي نشأت فيها الصحافة المحلية وخصوصا وجود سلطة حماية بريطانية وارهاصات نهضة ثقافية وسياسية تعم البلدان العربية، أسهمت بقوة في صوغ توجهات هذه الصحافة في نشأتها الأولى بحيث ارتبطت هذه الصحافة بالهموم الوطنية في شقيها السياسي والاجتماعي الأشمل.

إن هذه النشأة والتأثير الطاغي للهموم القومية والوطنية وطموحات التحديث التي حملها رواد الصحافة البحرينية الأوائل، حددت منذ البداية الصورة التي سيظهر بها المواطن في هذه الصحافة. كان هؤلاء الرواد مصلحين سياسيين وفكريين بالدرجة الأولى، وكان لهذا التكوين أهمية حاسمة في تحديد شكل العلاقة مع الجمهور الذي يتوجهون إليه من خلال الصحافة. كان هذا العنصر مضاف إليه ضغوط السلطات البريطانية مهما في صوغ هوية الصحف التي شهدتها البحرين منذ الثلاثينات وحتى اليوم. وفي أحد معالم هذا التحليل، فإن البحرين لم تشهد مثلا سوى نشأة صحف امتازت بالجدية والإفراط في الجدية أيضا ولم تظهر أي صحيفة ساخرة مثلا أو صحيفة إثارة أو صحيفة اجتماعية أو حتى نسائية. لقد كانت الصحف التي شهدتها البلاد منذ الثلاثينات تضطلع بهذه الأدوار كلها حتى اليوم.

طغيان الهم القومي والوطني، حدد منذ البداية صورة المواطن في هذه الصحافة. فهو مواطن يحلم باستقلال بلاده ويحمل الأحلام التي تراود الملايين من العرب سواء حيال القضايا القومية أو في تحسين أوضاعه المعيشية وتطوره الاقتصادي والاجتماعي وتطور حياته الثقافية والفكرية. وفي أفضل الحالات فإنه لم يظهر في تلك الحقبة سوى مواطن صاحب شكوى ومطالب تتعلق بحياته اليومية ومستقبله.

هل تغيرت صورة المواطن في صحافة السبعينات مع صدور «أخبار الخليج» في العام 1976 باعتبارها أول صحيفة يومية في البحرين؟ هل بدأت الصحافة تنتهك حرمات المواطن وحرياته مثلا؟ هل دفع ضغط توفير مادة لصحيفة يومية إلى مثل هذا الانتهاك أو إلى تغيير صورة المواطن في الصحافة؟

إن «أخبار الخليج» منذ صدورها وحتى اليوم لاتزال توصف بأنها رصينة، والرصانة يمكن ان تحمل مدلولات عدة لكن عندما يتعلق الأمر بالنشر، فإن المدلول لن يحيد عن البعد عن الإثارة، وأكثر ما يمكن الإشارة إليه في تجسيد البعد عن الإثارة هو حرصها على عدم الانتهاك بالمعنى الشامل للكلمة. الانتهاك لا لحرية المواطنين وحياتهم الخاصة فحسب، بل لجملة من الأوضاع والشروط ومنظومة أخلاق عامة محددة سلفا ضمن حدود التسامح في المجتمع سياسيا واجتماعيا وثقافيا.

وما يمكن ان يقال عن «أخبار الخليج» من حيث الرصانة، هو نفسه الذي يمكن ان يقال عن «الأيام» أيضا منذ صدورها في مارس/ آذار العام 1989. إن صديقنا وزميلنا الوزير بإمكانه الآن ان يوضح لنا ما إذا كانت «الأيام» التي أدارها 12مدة 12 عاما عاما متواصلة منذ صدورها وحتى تعيينه وزيرا العام الماضي، قد انتهكت في أي يوم حرية المواطنين أو حرماتهم أو حياتهم الخاصة.

إن الأخبار غير البهيجة المتعلقة بالمواطنين كأخبار الحوادث وقضايا المحاكم مثلا تنشر بأكثر صور المواربة والتعميم. فلا أسماء تذكر ولا حتى أية إشارة يمكن ان يستدل بها آلاف القراء على هوية المعنيين بالخبر. وعدا هذا، فإن المواطنين كانوا يطلون في صحافة الثمانينات والتسعينات اما باعتبارهم شخصيات عامة نشطة في ميادين العمل أو في ميدان الأعمال التطوعية ضمن توجه عارم ساد مجتمعنا نحو العلاقات العامة باعتبارها مدخلا للترقي الاجتماعي وكسب الوجاهة، أو مواطنين يئنون من الشكوى.

النصف الثاني من السبعينات وبداية عقد الثمانينات، كانت سنوات الازدهار الاقتصادي، وعلى رغم عثرات الثمانينات التي ترتبت على هبوط أسعار النفط، فإن الصحافة البحرينية ظلت توالي تقديم الشخصيات الاقتصادية ورجال الأعمال والمستثمرين والموظفين الكبار في الشركات والوزارات على نحو طاغ إلى الحد الذي تحوّل فيه هؤلاء إلى نماذج أحلام معممة لكل الأجيال، من الصغار والكبار.

لكن تلك السنوات أيضا وسنوات التسعينات، كانت هي السنوات التي شهدت ازدياد مظاهر البؤس التي عبرت عن أحد ملامحها الصارخة النشأة المتسارعة للصناديق الخيرية في مختلف أرجاء البلاد إلى الحد الذي فاق عددها 300 صندوق. وإذا ما أضيف إلى ذلك، التفاوت الذي حمله ازدهار الثمانينات على البحرينيين من حيث بروز طبقة جديدة من الأثرياء في مقابل طبقة متنامية من محدودي الدخل، فإن هذا الحراك الاقتصادي والاجتماعي شكل عنصرا جديدا أسهم في إعادة صوغ صورة جديدة للمواطن يطل بها في الصحافة اليومية: معدوم الحيلة اقتصاديا، يشكو مزاحمة الأجانب له في رزقه وتفضيل أرباب العمل لهم عليه، يبحث عن سكن لائق أو عمل بأجر يمكّنه من إعالة أسرته، أو مساعدة لعلاج طفل من مرض عضال.

اولئك الذين ألقت بهم الأزمات الاقتصادية العالمية من موظفي المصارف مثلا على الرصيف، وجدوا أمامهم ملاذا وحيدا لشكواهم واسماع صوتهم للمسئولين: الصحافة المحلية. كان ذلك منذ وقت مبكر في منتصف الثمانينات، وفيما بعد ظلت علاقة المواطن البحريني بالصحافة المحلية، وصورته فيها تسير بالصيغة القديمة الموروثة منذ العقود الماضية، علاقة حميمة تجعل الصحافة معبرة عن همومه الحياتية وملاذه للتعبير عن شكاواه اضافة إلى الصورة الجديدة التي أدخلتها مستجدات الازدهار الاقتصادي وتحول البحرين إلى مركز مالي متقدم ومرموق في المنطقة، اي قناة للتعبير عن أوجه هذا الازدهار في خدمة علاقات عامة طغت على صحافتنا منذ الثمانينات وحتى اليوم.

لكن الضائقة المعيشية كانت تشكل عنصرا ضاغطا ايضا في الصورة التي سيطل بها المواطن في الصحافة المحلية. ان شكل الجنح والجرائم في وقت ما يعبر عن اوضاع المجتمع بشكل أشمل. وطالما شهدت الثمانينات والتسعينات اشكالا غير مسبوقة من الجنح والخصومات العائلية، فقد كان المواطنون يفاجأون بالصحافة المحلية وهي تنشر لهم من حين لآخر قصصا عن أبناء ألقوا بآبائهم وامهاتهم على الرصيف طمعا في المنزل او عن شبان سرقوا المال من ذويهم لشراء المخدرات او عن مطلقات وجدن انفسهن مع اولادهن على الرصيف جراء قسوة الزوج او وفاته.

ومع صحافة مازالت توصف بأنها موالية للحكومة، يصعب التصور ان صحافة مثل هذه يمكن ان تقدم على انتهاك خصوصيات مواطنيها او حرياتهم او تمارس أشكالا مبتذلة من الحريات الصحافية على طريقة صحافة الفضائح مثلا او مطبوعات العلاقات العامة.

على هذا لا تبدو هذه الصحافة مخيفة وهي لا تملك انيابا يمكن ان يخشى منها، وهي اما ملاذ للمواطن البسيط او وسيلة للترقي والوجاهة لصنف آخر من المواطنين، فأين هي الضرورة التي تستدعي حماية مفترضة للمواطن من الصحافة؟.

لكن هذا يبقى مرتبطا ايضا بما شهدته هذه الصحافة طيلة العقدين الماضيين من حيث قدرتها على أداء دورها بمقاييس عالية من الاحتراف ام العكس. واللافت هنا هو أن عقد التسعينات الذي شهد انفجارا معلوماتيا وإعلاميا مدويا وانتشار الفضائيات وتقنيات الاتصال المتقدمة، هو العقد نفسه الذي شهد تراجعا حقيقيا في أداء الصحافة المحلية وقدراتها. ومع نشأة قسم للإعلام في كلية الآداب في جامعة البحرين في حوالي العام 1996، كان اقبال الشبان من الجنسين على هذا القسم لافتا لجهة الأعداد الكبيرة التي راحت تطرق ميدان الاعلام. ترافق ذلك مع بداية دخول جيل جديد من الصحافيين في الصحافة المحلية، لكن الحديث عن تقدم نوعي في أداء الصحافة كان ولايزال مؤجلا، بل على العكس، كان التراجع هو الذي سيسجل حتى اليوم.

ان رصدا واستقراء دقيقا للموضوعات والقضايا التي طرحتها الصحافة المحلية في السنوات القليلة الماضية، سيقودنا إلى ان نجد انفسنا امام حقيقة مرعبة فيما يتعلق بالمهارات الصحافية، لقد تراجعت مساحة التحقيقات لحساب المقابلات. وهذا التراجع لن يكون ذا اهمية للكثيرين إلا للصحافيين أنفسهم.

فتطور التحقيقات او تراجعها هما اللذان سيؤشر ان على تطور أو تراجع قدرات ومهارات الاستقصاء لدى الصحافيين البحرينيين لحساب فن المقابلات الذي لا يتطلب مهارات او قدرات استقصائية مثل التحقيقات. ان الموضوعات التي تنشر باعتبارها تحقيقات منذ سنوات، تفتقد حس الاستقصاء والمتابعة الدقيقة والتحليل وكل المهارات الذهنية التي يتطلبها تحقيق صحافي نموذجي. لقد كان هذا التراجع يتفاعل منذ نهاية الثمانينات وفي افضل صورها باتت التحقيقات الصحافية اقرب لدردشات سريعة واعادة انتاج (استنساخ بالأصح) لموضوعات قديمة من دون اي آفاق يمكن ان تقود إلى فهم جديد للمشكلة او الموضوع المطروح.

مع صحافة كهذه، أعتقد انه مواطن آخر هذا الذي تراد له الحماية من الصحافة. وأعتقد انه القلق مما قد يحمله المستقبل للصحافة في ظل الديمقراطية. نحن لا ننتظر سوى أيام جميلة، فمن هو ذاك الذي يمكن ان يخيفه المستقبل إلى الحد الذي بات مطلوبا ان يحمي قانون الصحافة المواطن؟ يحميه من ماذا؟

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 101 - الأحد 15 ديسمبر 2002م الموافق 10 شوال 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً