العدد 1107 - الجمعة 16 سبتمبر 2005م الموافق 12 شعبان 1426هـ

وزير الهواء مجددا

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

سئل الفنان إبراهيم خلفان في مقابلة مع إحدى الأسبوعيات عن الوزارة التي يتمنى أن يكون على رأسها. وبخيال فنان أجاب: وزيرا للهواء. ثمة استدراك مهم قبل الاستغراق في التفاصيل. هل تعرفون إبراهيم خلفان؟ السؤال الذي يلازمني دوما عندما أكتب عن المسرح، كتبته في الربيع الماضي وانا أتحدث عن مسرحية "أخبار المجنون". لا يهم، إنه واحد من تلك الطيور النادرة التي كتبت عنها في مارس/ آذار الماضي. لكن ها هنا مفارقة أخرى. فقبل أن اقرأ المقابلة، كنت مستغرقا مع خلفان في حديث عن المسرح في البحرين. الحديث نفسه الذي لازمنا طيلة العقود الثلاثة الماضية ويبعث على الضيق دوما: الإمكانات، الصالة، الدعم، تغريب الجمهور، العمل بصمت من دون انتظار أي اهتمام من الجهات الرسمية. استوقفنا أمر واحد: ألم يكن بالإمكان بناء صالة طيلة 30 عاما؟ أما في المقابلة، فيذهب إلى شوط بعيد من الخيال ليتحدث عن وزارة الهواء التي يتمنى أن يترأسها، هواء نقي يجدد الروح. أما أول قرار سيصدره إذا ما تسلم هذه الوزارة فهو "العمل على أن يكون الهواء نقيا في كل منزل، لذلك سأعمل على توفير مصفاة للهواء وفي كل شهر يجب تغيير هذه المصفاة وستتحمل الوزارة كل المصاريف". لكن مصفاة إبراهيم خلفان ووزارة الهواء ليست ابتكارا غير مسبوق. فقبلها كانت مصفاة هواء أخرى ووزارة هواء ووزير للهواء اقترحها عبدالله خليفة في الثمانينات في مقال له بمجلة "صدى الأسبوع" بعنوان: "وزير الهواء". نحن بين خيال روائي وخيال فنان مسرحي، وإذا كانت مصفاة إبراهيم خلفان مجانية وتتحمل الوزارة نفقات استبدالها كل شهر، فإن مصفاة عبدالله خليفة وضعت وبقربها عداد يحسب كمية الهواء الذي نستنشقه قبل أن نتسلم الفاتورة آخر الشهر. كلا الرجلين ابتكرا هذه الوزارة بدوافع يحركها الحنق والضيق. لقد كتب عبدالله خليفة مقاله ذاك وهو لايزال يخوض تجربته كقاص وروائي. وهو إلى هذا كان صحافيا تنقل بين عدة مجلات وصحف في تلك الفترة، أما ما اثار حنقه واستفز خياله فهو قرار وضع عدادات المياه ورفع سعر التعرفة. لم يجد غير الهواء خارج التعرفة والتسليع، فابتكر وزيرا للهواء وعرض له مؤتمرا صحافيا من نسج الخيال يتحدث فيه عن مصفاة الهواء التي قررت وزارته تركيبها على انوف المواطنين وكيفية احتساب التعرفة. ذلك السخط القديم تحول اليوم الى طاقة في ميدان آخر: إعادة قراءة التاريخ العربي الإسلامي وهو ما اثمر كتاب خليفة الأول في هذا الميدان. لقد استغرق خليفة في هذا الجهد وحول طاقته من اليومي الذي يستنزف القدرات الذهنية إلى عمل دؤوب ومثابر بتنا نلمس شيئا من ثماره في مقال يومي يعد من بين قلة تستحق القراءة. خلفان ابتكر وزارة الهواء في 2005 والحديث كله يليق بخيال سلفادور دالي وكان الضيق يقف بجدارة وراء اقتراحه: "يبدو الصباح كئيبا أو هكذا هي الوجوه التي اراها في الساعات الباكرة "..." طلاب متوجهون إلى الجامعة وعلى وجوههم عبوس، عمال يبدو كأن النوم لم يفارق جفونهم". وبالنسبة له، فإن وزارة الهواء مثل المسرح "فأنا عندما اترك المسرح لن ابرع في مهنة ثانية". وما بين الثمانينات والعام الخامس من الالفية الثالثة، لا يقودنا الخيال إلى الضحك فحسب، بل إلى أنه يرسم تاريخا وخطوطا واضحة ومفارقات بين عشرين عاما واليوم. عوقبت "صدى الأسبوع" وقتذاك بالوقف لأن المقال عد سخرية من وزير في الحكومة. أين هي الآن؟ توقفت. عبدالله خليفة قادته الصحافة إلى البحث وغدا باحثا له اجتهاداته في التاريخ العربي الإسلامي. اما خلفان الذي وقف في الثمانينات على خشبات متهالكة في الأندية والجمعيات وأخرج الكثير من المسرحيات، فقد تصبح وزارته حقيقة قبل أن تختفي مفردات الشكوى في أحاديث المسرحيين. ثمة أمر أخير: لقد كتبت مفردة الهواء في مقابلة خلفان من دون "الهمزة". هكذا: "الهوا". وإذ بدا الأمر مسليا قليلا، تذكرت عربية هذا الجيل الذي يقلب "الضاد" إلى "ظ" والعكس، ويكثر من العامية ويكتب الكلمات مثلما ينطقها. قفزت إلى ذهني صورة مضادة تماما، صورة ذلك المدقق اللغوي المتشدد الذي قلب اسم الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران إلى "فرانسوا ميترين" بحسب موقعه من الأعراب مثلما برر. ماذا بقي بين عربية تتكسر وأخرى خالصة تنتمي إلى زمن آخر؟ أي تلك الحالة التي ستعيدنا إلى السؤال الملازم: لماذا يتعين علينا أن نكون دوما بين تطرف وتطرف آخر يقابله؟ لا تذكروني بالاستثناءات، بل يجدر بنا أن نتساءل لماذا بقيت استثناءات ولم تصبح حالة عامة بالاصح؟ لقد كان المسنون في الحي يتندرون علينا نحن الصغار: هل تذهب الى المدرسة يا ولد؟ نعم. إذا، احسب: 7 في الليمون و6 في الهواء، كم صاروا؟ نجيب نحن كتلاميذ نجباء: .13 يضحك المسنون كثيرا ربما فرحا بالنباهة في الحساب وربما سخرية لانطلاء الحيلة. ولن يقدر لنا أن نعرف المجاز في هذه الحيلة الطريفة الا عندما نكبر ونستخدم هذا التعبير الساخر: "في المشمش". ربما يتعين اهداء إبراهيم خلفان سلة مشمش بارد هذا الصباح، لكن ابعد من هذا الهذر، فإن العبرة الأهم لدى عبدالله خليفة ان تتحول من صحافي إلى باحث، ان تملك شيئا من المثابرة والصبر وهاجس البحث والتحليل... أي باختصار: كل ما نفتقده هذه الأيام.

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 1107 - الجمعة 16 سبتمبر 2005م الموافق 12 شعبان 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً