العدد 1334 - الإثنين 01 مايو 2006م الموافق 02 ربيع الثاني 1427هـ

ماؤكم مالح... أجسادكم مالحة يا أهل البحرين!

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

هذا ما كانت تردده خاتون البصراوية زوجة إسماعيل بن إبراهيم بن موسى العطار من سكنة النعيم الغربية في رواية «السوافح... ماء النعيم» للروائي البحريني المتألق فريد رمضان، والتي صدرت في الأيام القليلة الماضية. وفي هذه الرواية ينتقل فريد إلى المنامة بعد أن كانت المحرق هي السياق الرئيس الذي دارت فيه حوادث روايتيه الأوليين: حارة البوخميس في رواية «التنور» 1994م، وقرية البسيتين في رواية «البرزخ» 2000م.

تدور حوادث رواية «السوافح» في حارة «النعيم الغربية» إبان الخمسينات حين كانت فرضة المنامة صاخبة وعامرة بالبضائع ومليئة بالحركة وبمئة سفينة شراعية على الأقل، وبأناس من أجناس شتى، وحين كانت النعيم حارة محصورة بين مائين مالحين يجريان فيها بانصباب كماء السوافح: ماء البحر، وماء العين الذي يجري حزناً على مصاب الإمام الحسين حين يهل هلال محرم، فتنفجر معه دموع نسوة النعيم في حسينية الملاية أم هاشم، و«تتحول رائحة حي النعيم لنكهة وطعم مختلفين، إذ يختلط هواؤه برائحة عطب الفحم، مع ماء الورد، ورائحة التبغ الإيراني برائحة الطناجر الملتهبة برُزِّ الحسين» (ص 36).

من هذه السوافح المالحة تبتدئ الرواية، ومن ملوحتها اكتسبت أجساد أهل النعيم - ومعهم أهل البحرين - ملوحتها التي كانت خاتون تذكارهم بها. وخاتون لألا هذه اعتادت على ماء النهر الحلو وهي العراقية التي تزوجها إسماعيل وجاء بها إلى حارة النعيم، وقبل هذا كانت تعيش في البصرة التي تركتها لتستقر مع والدها في كربلاء تخدم زوار الحسين وتنظف الصحن الشريف. أما إسماعيل فقد كان يعمل قلافاً يصلح السفن والقوارب، ويجيد جميع أعمال النجارة، ويتفنن في صناعة أبواب المآتم والأضرحة التي كان يرسلها تبراكاً إلى إيران والعراق. وهو بحريني من أصل حساوي، وكان والده قد نزح مع جده في العام 1870م من الإحساء إلى البحرين، ومات جده في القارب، وبقي فيه حتى وصلوا شواطئ البحرين، ودفن في مقبرة النعيم. وفي النعيم اشترى والده بيتاً وعاش فيه مع والدته وزوجته وأخته رقية.

وبهذه الهجرات تستكمل هذه الرواية ما ابتدأه فريد في «التنور» و«البرزخ» في مسعى حقيقي من أجل تحرير الوعي من ارتهانه للمقولات النهائية والمغلقة كمقولات الأصالة والنقاء العرقي والطائفي والمصب الرئيس، ومن أجل فهم مفتوح (لا مغلق) ومتسامح (لا متناحر) للمعنى والواقع والمجتمع والتاريخ والهوية في هذا المجتمع. وهي المهمة التي نتصور أن فريد رمضان نذر تجربته من أجلها. وسبق لي أن كتبت بتفصيل عن هذه المهمة من حيث هي إعادة تحبيك (أي صوغ التاريخ المحلي وفق حبكة سردية جديدة) لتاريخ الهويات الثقافية من أجل إفساح المجال للعيش المتسامح في الحاضر الذي لا مجال أمامه ليكون مستقبلاً إلا بأن يكون حاضراً متسامحاً وقابلاً للعيش المشترك، وإذا لم يكن كذلك فعلينا أن نختلقه ليكون كذلك. واختلاق الحاضر هو مهمتنا جميعاً، وهذا إسهام فريد الروائي في هذه المهمة.

تحتفى هذه الرواية، كما في «التنور» و«البرزخ»، بالهجرة والسفر والهجنة والكثرة احتفاءً خاصاً، ومن يعرف تجربة فريد رمضان يعرف أنه يتعامل مع الهويات الثقافية بوصفها موضوعاً يتشكل في مجرى التاريخ، ويخضع للتقلبات والتحولات بحكم الهجرات والأسفار والاندماجات. والهويات بهذا المعنى أبعد ما تكون عن مقولات «الأصالة» و«النقاء العرقي أو الطائفي» و«المصب الرئيس». هذا ما كان في «التنور» حين نزح جاسم وعبدالرحمن وأحمد (وكذا ابنه محمد) - وهم من الهولة - من قرية عسلوه على الساحل الفارسي إلى «حارة البوخميس» بالمحرق. وهذا ما كان مع عيسى الخال في رواية «البرزخ» حين جاء به أبوه من مدينة مطرح العمانية إلى قرية البسيتين بالمحرق. وهذا ما تنهض به رواية «السوافح» حين تصور هجرات أهل الإحساء والبصرة إلى حارة النعيم. ومن هذه الهجرات المتكاثرة اكتسبت هذه الأرض كثيراً من ملامحها المميزة، ومن ملوحة بحرها وماء عينيها اكتسبت أجساد أهلها ملوحتها. هكذا كانت البحرين، وهكذا كان طبعها وديدنها.

واللافت كذلك في الرواية أنها رواية المرض بامتياز، المرض الذي تبتلى به هذه الأجساد المالحة كملوحة بحرها. كانت رقية، عمة إسماعيل، قد هاجرت مع أهلها من الإحساء إلى البحرين وفي الهجرة «طفر رذاذ البحر في وجهها، فمساها حزن لم نعرف له علاجاً، منذ أن شبت على أرض البحرين، وهي في وهن عجزنا عن فك أحجيته. سألنا أهل الحي لماذا لا يهطل علينا نعيمكم؟» لم يهطل هذا النعيم في النعيم الغربية، ولم تشف رقية من مرضها العصي على الكشف. أما خاتون، ابنة النهر ومائه الحلو، فقد كانت فتاة جميلة حين تزوجها إسماعيل في كربلاء، وحين سكنت البحرين صارت مقعدة وعاجزة عن الحركة، وازدادت بنيتها ضعفاً، وعظامها تتقلص وتنكمش ولا تقوى على حمل جسدها. أهل النعيم قالوا لإسماعيل: «هي لعنة تطاردكم يا أهل الإحساء، فما أصاب خاتون يشبه ما أصاب رقية... هي شمسكم في مغيب، وهي بثور تطفح آثارها في أجسادكم» (ص 124).

أما حسين، الابن البكر الذي أنجبه إسماعيل من خديجة (وهي من سكنة النعيم الشرقية)، فقد ابتلي بمرض أودى بحياته حين اعتقل مع ابن عمه عبدعلي، وسجن مع من اعتقلوا في حادثة البلدية في 11 مارس/ آذار من العام 1956. في سجن القلعة مرض حسين، وهناك أسلم روحه بعد نوبة حادة من فقر الدم المنجلي، المرض الذي حصد بمنجله المهيب النبات والأجساد في هذه الجزيرة المالحة.

هذه الأمراض (الثلاسيميا والأنيميا المنجلية) هي ضريبة العيش في السوافح المالحة، البقية الباقية من مستنقعات أنكى في أسطورة دلمون، وهذا ما جعل خاتون، المقعدة العراقية، تصيح وهي تغرف بيدها من البحر وتستطعمه: «ماؤكم مالح يا أهل البحرين، لا ضير إذن أن تكون أجسادكم مالحة، وتطفو منها رائحة البحر» (ص 29).

هذه هي رواية «السوافح... ماء النعيم»، رواية جديرة بالقراءة، وقريبة من ملوحة ماء البحرين وأجساد أهلها، وزاخرة بإرثهم الديني وخيالاتهم وتاريخ هجراتهم وأمراضهم، ومسكونة بسرد هجين يمزج التاريخي بالفنتازي بالسيرذاتي كطبائع الكتابة عند فريد. والأهم أنها رواية تقاوم الانكفاءة التي شلت حركة الأدب والثقافة عندنا، وحوالته من «حركة تدخل جسورة» إلى ما أسماه إدوارد سعيد بـ «تيه النصية» الذي عزل الأدب والثقافة عن الأحوال والظروف والأحداث والبشر، وعن الانخراط في الصراع الحيوي الدائر على الأرض وفي عالم الدنيا.

تخرق «السوافح... ماء النعيم» هذا الإجماع المتحكم حول مبدأ «عدم التدخل»، وتتجاوز الغرق في «تيه النصية». وهي، بحق، «نص دنيوي جسور» لا يدير ظهره للصراعات الحيوية القائمة. وهذا ما جعل منها نصاً أقرب إلى البحث والكتابة المتقصية. ولعل هذه الخاصية في روايات فريد - إضافة إلى ما يحمله في جسده النحيل من ذاكرة المنجل المهيب، مرض الأجساد المالحة كملوحة البحر - هي ما تجعله يخرج لنا رواية واحدة بانتظام في كل ست سنوات: 1994، 2000، 2006. ما يعني أن علينا الانتظار حتى العام 2012 لنرى رائعة فريد الرابعة

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 1334 - الإثنين 01 مايو 2006م الموافق 02 ربيع الثاني 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً