العدد 1355 - الإثنين 22 مايو 2006م الموافق 23 ربيع الثاني 1427هـ

حين تتحصن القوانين من الطعن في دستوريتها!

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

وافق مجلس النواب في جلسة الثلثاء 16 مايو/ أيار الجاري على مشروع قانون التجمعات. ومن جهتها أعلنت 7 جمعيات سياسية احتجاجها على إقرار المجلس لهذا القانون، لما يشتمل عليه من «تضييق على حرية التجمع وإبداء الرأي ويعطي صلاحيات واسعة لوزير الداخلية وموظفيه في التدخل في حركة التظاهرات والمسيرات بما يتناقض مع جوهر الحق الدستوري في التظاهر والحرية». ويتوقع أن يمرر هذا القانون في مجلس الشورى، وبعد تصديق جلالة الملك عليه ستصبح له «قوة القانون»، تماماً كما صار لقانون الجمعيات السياسية، وكما سيصبح لقانون الصحافة والنشر والتعبير قوة القانون وهكذا. وفي تصوري أن المشكلة الحقيقية وراء تمرير هذه القوانين لا تكمن فقط، كما يحلو للبعض أن يردد، في ضعف مجلس النواب، ولا في اختلال تركيبته الحالية، بل تكمن أساساً في خلل في العلاقة بين الدستور والقانون. وأنا لست متخصصاً في القانون ولا في الفقه الدستوري، ولكني اطرح هذه القضية كمتطفل على هذا المجال، وهو تطفل ليس لي فيه من أجر غير أجر المحاولة والاجتهاد، وأتمنى أن يكون فهمي هذا خاطئاً، لأنه لو كان صائباً فنحن إذاً أمام خلل تترتب عليه عواقب فادحة على مستويات كثيرة.

وفي هذا السياق أقول إن العلاقة الطبيعية هي أن يكون الدستور حاكماً على القانون، وهذا ما يسميه فقهاء القانون الدستوري بـ «سمو الدستور»، فهو «أبو القوانين» و«قانون القوانين». ومعنى هذا السمو أن أي قانون يتم تشريعه ينبغي أن يكون موافقاً لنصوص الدستور، وإلا صار عرضة للطعن عليه بعدم دستوريته أمام المحكمة الدستورية التي تختص، بحسب المادة 106 من دستور المملكة للعام 2002، بمراقبة دستورية القوانين. وبحسب الدستور أيضاً فإن القانون يكفل «حق كل من الحكومة ومجلس الشورى ومجلس النواب وذوي الشأن من الأفراد وغيرهم في الطعن لدى المحكمة في دستورية القوانين واللوائح. ويكون للحكم الصادر بعدم دستورية نص في قانون أو لائحة أثر مباشر».

إلا أن المشكلة تكمن أساساً في اختلال العلاقة بين الدستور والقانون في نص الدستور ذاته، ومن يتصفح الدستور سيجد أن معظم مواده وبنوده مقيدة بعبارات من قبيل «وفقاً للقانون» و«كما ينظمه القانون» و«كما يحدده القانون» و«كما يبينه القانون» وغيرها الكثير من أمثال هذه العبارات الاستدراكية. وخطورة هذه العبارات، في تصوري، تكمن في أنها تجعل للقانون قوة الدستور، أو قوة يستمدها من نص الدستور ذاته. ويخطئ من يتصور أن هذه الاستدراكات عبارات عابرة أو مجرد استدراكات هامشية وزخرفية في نص الدستور، بل الصحيح أنها جزء أساسي من نص الدستور، ولهذا يكون لها «قوة الدستور» وحاكميته. وبعد أن يتم تفصيل القانون في منظومة تشريعات ولوائح تفصيلية، ثم يقر بالآليات المنصوص عليها في الدستور، عندئذ تصبح لهذا القانون «قوة القانون» و«قوة الدستور» معاً. ولا أتصور أن الصياغة التشريعية تستوجب مثل هذه العبارات، وكان الأولى أن تحذف مثل هذه الاستدراكات أو تقياد نصوص الدستور بالدستور نفسه «وفقاً لهذا الدستور»، أو بعبارات عامة لا تكون قيداً حاكماً على نصوص الدستور. فنحن إذاً لسنا أمام استدراكات تستثني بنوداً محددة من الدستور فحسب، بل أمام قوانين لها من القوة الدستورية ما يضاهي قوة الدستور ذاته، وعندئذ لا يفقد الدستور جزءاً كبيراً من قوته وسموه وحاكميته على القوانين فحسب، بل يتعطل أساساً العمل الجوهري للمحكمة الدستورية، لأنها ستقوم عندئذ بمهمة شكلية؛ إذ ماذا بإمكان هذه المحكمة أن تعمل إذا كان نص الدستور مقيداً بعبارة «وفقاً للقانون» أو «كما يبينه القانون؟» فإذا كانت هذه المحكمة مسئولة عن مراقبة دستورية القوانين، فإن كل القوانين تصبح دستورية إذا كانت آلية التشريع سليمة دستورياً، ولا حاجة بعد هذا لتأويلات بعيدة لنصوص الدستور وروحه، بل بالنص الدستوري الصريح تعطى لمثل هذه القوانين قوتها الدستورية. وعلى هذا فإن الحكم الحقيقي في تقرير دستورية هذا القانون أو ذاك ليس هو المحكمة الدستورية، بل يصبح المجلس الوطني بمثابة الحكم على دستورية القوانين، لأن مجرد صدور القانون وفق آليات دستورية سليمة هو علامة على دستوريته؛ لأن النص الدستوري الصريح يقول «وفقاً للقانون» وها هو القانون يبين ويحدد ويقرر مجموعة المبادئ العامة التي انطوى عليها الدستور. وبهذه الطريقة يتعطل عمل المحكمة الدستورية الجوهري ولا يعود لها من قيمة إلا في حدود ضيقة جداً.

وبسبب هذا الخلل في علاقة الدستور بالقوانين، تمت الموافقة على قانون الجمعيات، وصارت له قوة القانون المحصن، إلى أبعد الحدود، من أي طعن في دستوريته. وبالطريقة ذاتها ستتم الموافقة على قانون التجمعات وبصورة دستورية، كما ستتم الموافقة على قانون الصحافة والنشر وبصورة دستورية، وستتم الموافقة على التعديل الذي أدخلته الحكومة على قانون مباشرة الحقوق السياسية والقاضي بحرمان المحكومين بعقوبة الحبس لمدة 6 شهور من المشاركة في الحياة السياسية لمدة 10 سنوات وبصورة دستورية أيضاً. والسبب أن كل هذه المواضع مقيدة في الدستور بالقانون. والغريب أن المذكرة التفسيرية، وهي المرجع في تفسير نصوص الدستور وما ورد فيه من أحكام، تركت معظم هذه المواضع من دون تفسير، فلم تذكر شيئاً عن المادة 27، والمادة 28/ ب، والمادة 124، وذكرت كلاماً عاماً جمعت فيه المواد 23 و24 و25. وإذا أخذنا هذه المواضيع الأربعة واحداً واحداً، فسنجد أن الدستور يكفل كل هذه الحقوق ولكن وفقاً لما يحدده القانون. ففي المادة 27 ينص الدستور على أن «حرية تكوين الجمعيات والنقابات... مكفولة»، ولكنها مكفولة فقط «وفقاً للشروط والأوضاع التي يبينها القانون». وفي المادة 28 فقرة (ب) نص صريح على أن «الاجتماعات العامة والمواكب والتجمعات مباحة»، ولكنها مباحة فقط «وفقاً للشروط والأوضاع التي يبينها القانون». وفي المادة 24 نص صريح على أن «حرية الصحافة والطباعة والنشر مكفولة»، ولكنها مكفولة فقط «وفقاً للشروط والأوضاع التي يبينها القانون». أما فيما يتعلق بتعديل قانون مباشرة الحقوق السياسية، فإن المادة 1 فقرة (هـ) تنص على أن «للمواطنين، رجالاً ونساء، حق المشاركة في الشئون العامة والتمتع بالحقوق السياسية، بما فيها حق الانتخاب والترشيح، وذلك وفقاً لهذا الدستور وللشروط والأوضاع التي يبينها القانون، ولا يجوز أن يحرم أحد المواطنين من حق الانتخاب أو الترشيح إلا وفقاً للقانون». وعند التأمل في هذا البند سيتبين أن حق مباشرة الحقوق السياسية بالانتخاب أو الترشيح محكوم بقيدين: الأول هو الدستور في عبارة «وفقاً لهذا الدستور»، الثاني هو القانون في عبارة «الشروط والأوضاع التي يبينها القانون». وبناء على القيد الثاني سيكون التعديل المقترح من قبل الحكومة دستورياً حال الموافقة والتصديق عليه. ولا يوجد في الدستور ما يطعن في دستورية مثل هذا التعديل، بل إن المذكرة التفسيرية للدستور تطلق يد المشرع حين توضح أن «مقتضى هذا النص أن من حق المشرع أن يصدر قانوناً يحرم فيه البعض من مباشرة حق الانتخاب أو الترشيح لأسباب تتعلق بطبيعة عملهم... وهو أمر تقديري للمشرع وفقاً لما تقتضيه المصلحة العامة». ولكن خطورة هذا البند تكمن في القيد الأول، والحقيقة أن هذا البند واحد من البنود القليلة المقيدة بشرطين: الدستور والقانون. وفي تصوري أن الغاية من القيد الأول تتجلى حين نضعه جنباً إلى جنب مع المادة 124 من الباب السادس المخصص لـ «أحكام عامة وأحكام ختامية»، وتنص هذه المادة على ما يأتي: «لا تسري أحكام القوانين إلا على ما يقع في تاريخ العمل بها، ولا يترتب عليها أثر فيما وقع قبل هذا التاريخ. ويجوز، في غير المواد الجزائية، النص في القانون على سريان أحكامه بأثر رجعي، وذلك بموافقة غالبية أعضاء كل من مجلس الشورى ومجلس النواب أو المجلس الوطني بحسب الأحوال». وأتصور أن خطورة هذه المادة تكمن في قدرتها على منع كل معتقلي التسعينات وما قبلها وما بعدها من مباشرة حق الانتخاب والترشيح، لأن النص الدستوري واضح إذ لا يستثني من حكم هذه المادة إلا المواد الجزائية، أما غيرها من المواد فيمكن أن ينص في أي تعديل للقانون بسريان أحكامه بأثر رجعي. وسيكون التعديل دستورياً حتى لو نص على سريان أحكام الحرمان من مباشرة الحقوق السياسية بأثر رجعي؛ لأنه، وبكل بساطة، وافق نص الدستور الصريح.

والخلاصة أن لانعكاس العلاقة بين الدستور والقانون عواقب خطيرة متعددة أولها تعطيل عمل المحكمة الدستورية الجوهري، وصدور قوانين متشددة ولكنها تمتلك قوة القانون، ومحصنة بدرجة كافية من أي طعن في دستوريتها، وهذه هي الأخطر. والجميع يتذكر أن حرمان المرأة من المشاركة السياسية في برلمان 1973 إنما كان دستورياً، لأن دستور 73 ضمن حق المواطنين في المشاركة السياسية، وضمن حقوقاً متساوية للمواطنين، رجالاً ونساء، إلا أنه وضع ضوابط على هذه الحقوق، وذلك حين جعل القانون حاكماً على الدستور بعبارة «بحسب ما يقرره القانون»، فصدر قانون إجراءات الانتخابات فأعاد تعريف المواطن وحصره في الذكور البالغين من العمر أكبر من 21 عاماً للناخبين، وأكبر من 30 عاماً للمرشحين. وبسبب انعكاس العلاقة بين الدستور والقانون حرمت المرأة من المشاركة السياسية ومباشرة حقوقها في الانتخاب والترشيح في تجربة 73

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 1355 - الإثنين 22 مايو 2006م الموافق 23 ربيع الثاني 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً