العدد 1418 - الإثنين 24 يوليو 2006م الموافق 27 جمادى الآخرة 1427هـ

لبنان... حرب الإبادة والمعركة الإعلامية

منى عباس فضل comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

إننا حينما نكتب عن حدث التدمير والإبادة الصهيونية في لبنان وفلسطين أو توصيف المقاومة بالمغامرة وبـ «القلة»، فإننا في حقيقة الأمر نقرأ. واستناداً إلى علي حرب، في كتابه «هكذا أقرأ ما بعد التفكيك»، فإن قراءتنا هنا لا تكشف فقط عن حقائق ودلالات هذا العدوان، ولا تفسر مضامين التخاذل، ولا لتخوين من لا تروق لهم المقاومة اللبنانية في هذه المفصل التاريخي، إنما في واقع الأمر، نساهم في لعبة خلق واجتراح مقاومة ما لتزييف العقل العربي، مقاومة قد تؤدي بالأمة إلى مواقف نجزم بيقين انها الخيار الأمثل لانتشال الأمة العربية من أزمتها. هكذا نمارس فعل التعقل من دون انفعال في نطاق العقل التداولي الذي يدعو له الكاتب.

فإن قررت الخروج هذه الأيام من جوف أعماقك للكتابة عن حرب الإبادة التي تنفذها آلة الحرب الصهيونية في لبنان، حتما ستصطدم بمئات من العناوين والأمكنة التي ستقف أمامك مثل الأشباح. من أين تبدأ؟ وعلى أي منطق وقاعدة تتكئ؟ هل من حيث منبع انفعالاتك أو مشاعرك المختزنة التي تفيض غضباً وحزناً وحنقاً وعجزاً؟ فذاك على الأرجح لا يساوي حفنة من هول ما يعيشه اللبنانيون والفلسطينيون في المعارك والمحارق المتنقلة. ثمة ما يحتم عليك تسمية الأشياء بأسمائها كأن تقول بالضبط: ما يعيشه الجنوبيون اللبنانيون، وأهالي الضاحية الجنوبية في بيروت، ومحرقة المطار، والسواحل اللبنانية من شمالها إلى جنوبها، شرق لبنان وغربه، بدءا من الجنوب إلى بعلبك وحتى النقاط الحدودية عند المصنع، إلى الأراضي التي يختارها الصهاينة بدقة وتخطيط لتكون فريسة لغاراتهم أثناء الليل والنهار من دون توقف، من مجازر مروحين وصور وعيترون، وأكثر من ثلاثين قذيفة ألقيت على بلدات الخيام في غضون 24 ساعة. هكذا نكون قد سمينا الأشياء بأسمائها. أما في فلسطين فحدث ولا حرج، الغزاويون وجهاً لوجه، تحصدهم آلة الحرب الصهيونية بالعشرات، ليلاً ونهارا، ذلك يحدث قبالة صمت الحملان المشبوهة. من أين نبدأ؟ هل من مقاومة حزب الله، التي يحلو لبعض المثقفين العرب تسميتهم بـ «القلة»، أم من مقاومة حكومة حماس الشرعية التي يصفونها بالتطرف والإرهاب؟ هل من الأفضل البدء بفحص وتفكيك تساؤلات بعض المثقفين العرب المتغابين والمتشككين في زمن وكيفية قرع أجراس المقاومة للحرب المفتوحة التي يشنها العدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان، وخصوصاً أنهم يعيدون إنتاج لازمتهم، رجع صدى لخوفهم الدفين بالقول: إن الحرب سببها حزب الله، تناسوا انها بدأت منذ احتلال فلسطين، غفلوا في غفوة نهارية أن هناك حبلاً سرياً عربياً لايزال قائماً ووطناً محتلاً اسمه فلسطين.

ماذا لو أسهبنا الحديث عن أنظمة الحكم العربية، عن الخزي والعار الذي تسجله بامتياز منقطع النظير ومن دون استثناء؟ حتما ذلك يتطلب فتح دزينة من الملفات التي تستوجب استحضار ثلة من الباحثين المحترفين، مضافا إليهم نصف قرن من الزمن لكي يقوموا بدراستها كظاهرة عصرية شاذة وتوصيفها شكلاً ومضموناً، فضلاً عن قيمها واتجاهاتها الفكرية بكل تنوعاتها الاستبدادية والعسكرية والسياسية منها والاستراتيجية وبموضوعية تامة، ذلك حتماً يستدعي جهازاً إدارياً بيروقراطياً ضخماً ترصد له أموال نفطية طائلة. لذلك تركنا أمره طواعية للمحللين والساسة الخبراء الاستراتيجيين المنظرين الباردين منهم والقابضين على الأموال من المختصين المثقفين، نفسح لهم المجالات حتى ينزلوا من علياهم ويقرأوا وبتفكيك حربي (من علي حرب) لكي يفتوا ويبصروا في كل كبيرة وصغيرة ويبررون للأنظمة العربية أفعالها وشرورها، بدافع الخوف على مغانمهم ومواقعهم وعلاقاتهم الحميمة الوطيدة معها، وتحت يافطات الشراكة والتمكين، فالأمل لايزال يحدوهم بأن يعيشوا الآمال في الأيام الموعودة التي لم ترها شعوبنا العربية المسكينة بعد.

ماذا عن الأمم المتحدة؟

هل نستعرض بنود الاتفاقات الدولية المتعلقة بالحروب كاتفاق جنيف، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومواثيق الأمم المتحدة ومواقفها، وبرامجها وأنشطتها الداعية لحرية الإنسان ومحاربة العنصرية والتمييز والإرهاب، وامتلاك الأسلحة النووية والكيماوية والجرثومية المحرمة دولياً؟ هل نذكرها بمبدأ وجوب اجتناب ضرب المدنيين وإبادتهم في الحروب، ومشروع دمقرطة المنطقة الذي يتم بموازاة الفوضى الخلاقة التي تقودها أميركا؟ هل نتحدث عن كل ذلك؟ بيد أن مشاهد الشهداء من الأبرياء الأطفال والكبار المتفحمين بين الأنقاض، وفضائح المجازر الإنسانية المستمرة التي تحدث في لبنان وغزة بفعل التدمير الممنهج والمخطط له من قبل الدولة العبرية، وما أفرزته من تدمير وضحايا، يجعلنا نوجه أصابع الاتهام وتحميل الأمم المتحدة وعلى رأسها أمينها العام كوفي عنان مسئولية العدوان. ولا لوم إن كشفنا للعالم، بأنها منظمة فاشلة، وساقطة تاريخياً ومنحرفة أخلاقياً، لأنها متحيزة للصهاينة وللظلم وقهر الشعوب، إذ ارتضت لنفسها ارتداء عباءة الحاخامات وقلنسوة الصهاينة وباشرت بترديد صلواتهم ومبادئهم، التي تسعى لاعتمادها في المواثيق الدولية، وعلى رأسها احتقار الأجناس الأخرى وإبادتها. ذاك أيضا ملف سنتركه لمناضلي حقوق الإنسان كي يسهبوا فيه وبتفصيل في أدبياتهم وشعاراتهم ودوراتهم التدريبية والتثقيفية لمبادئ حقوق الإنسان، ودعواتهم المستمرة للتفرقة بين ثقافة حقوق الإنسان وثقافة العمل السياسي. هل حقاً، يوجد فرق؟ أظن ان ضحايا العدوان الصهيوني وما خلفه في لبنان وفلسطين أمثل إجابة على دحض ذلك!

من أين البداية، وطرق العبور قد تعددت وتشعبت، فالقضية مزمنة، بيد ان ثمة أمرين يلحان على طرق الباب في هذا المنعطف التاريخي أولهما: الدموع المتحجرة في عيون من نشاهدهم على شاشات التلفاز، حتى المذيعين والمذيعات منهم، وملامح الوجوه المبهمة التي اكتست بحزن نوعي عبرت عن مشاعر دفينة وغامضة، وخطيرة وبعيدة، تحمل في مكنونها دلالات بحث عن مجاهيل الزمن الحاضر، وتنقب عن شيء ما غريب في نموذج الإنسان الذي تتصدر مشاعره البلادة واللامبالاة، أو العنف أو الكراهية والحقد أو الأنانية أو جميعها معاً. ذلك الإنسان الذي يفترض فيه ما يميزه عن الحيوان. عيون تكشف عن غطاء سر احتفاظ البعض لمفهوم الكرامة الإنسانية وافتقاد الآخر لها.

الأمر الثاني، هو النقلة النوعية للرسالة الإعلامية العربية التي تلمسها المراقبون وخصوصاً تلك المرسلة عبر بعض الفضائيات أو بعض الصحف المحلية والعربية في تغطيتها لحدث العدوان الصهيوني تحديداً، فهي ظاهرة تستحق التفكيك والدراسة.

من قلب لبنان

في اتصال هاتفي مع كاتب لبناني صديق وبعد جهد جهيد لتعذر الاتصال مع بيروت، وخصوصاً أنه يقطن بلدة الجية الساحلية الجنوبية، التي تبعد عن بيروت 25 كم، وتركيبتها السكانية كما يذكر مختلطة من المسلمين والمسيحيين، وبالتالي تمثل نموذجا للمأساة التي تعيشها بقية بلدات وقرى ومدن لبنان. قال: إن ما تشاهدونه على شاشات التلفزة لا يقارن بالدمار والمجازر على أرض الواقع، حالة التدمير رهيبة وشاملة، إننا نعيش وسط الأنقاض، بين الناس، وهناك المئات والعشرات ممن لا نستطيع الوصول إليهم لمساعدتهم وإنقاذهم بسبب انقطاع الطرق، والقصف الجوي المتواصل، فالمنطقة قريبة من خزانات وقود المحطات الكهربائية وتشرف على الطريق الدولي المؤدي إلى بيروت، ولقرب شواطئها من سواحل الناقورة التي تنوي «إسرائيل» إقامة منطقتها الأمنية الجديدة فيها، تكون مؤهلة لأن تستوي بالأرض.

أضاف «إن الجية منطقة منكوبة هو كما حال بقية مناطق وقرى الجنوب المستهدفة، هناك محاصرون من الجرحى والمنكوبين لا يمكننا الوصول إليهم، يعاني الأهالي من نقص المؤن ووسائل الإغاثة والإنقاذ». سألناه عن سلامة أفراد عائلته، فرد: «جميعهم تشردوا وتوزعوا ما بين الأشرفية وأعلى الجبل، وهي مناطق يعتقد أنها مع قادم الأيام وحدة الصراع وضغط المفاوضات لن تكون آمنة». وأشار إلى أن المكالمات الهاتفية التي يتلقاها اللبنانيون من إخوانهم العرب وبالذات من منطقة الخليج تعني لهم الكثير، ترفع من معنوياتهم وتساعدهم على الصمود والإحساس بأنهم ليسوا مقطوعين ولوحدهم في المعركة. إنهم يقدرون تماماً مواقفكم وكل حركة وصوت احتجاج في الشارع أو تعبير عن الرأي في الفضائيات أو الصحافة، أو المنتديات الحوارية وكل ما تبدونه من تضامن لمساندتهم والوقوف مع قضيتهم.

صديقة بحرينية صحافية تبعث برسائلها الميدانية اليومية من بيروت، كشاهد عيان على المعاناة، وعلى رغم شدة حزنها لما يجري، فإنها فرحت فرحاً شديداً حينما حدثتها وسمعت صوتي، قلت لها لمَ لا تتركين المكان الذي تقطنين فيه لمكان آمن، قالت: «لا أستطيع ترك الناس من حولي في حالهم، فالوضع كما تسمعون وتشاهدون تدمير وخراب. صديقتي اللبنانية يمنى التي تعيش في قلب بيروت بالقرب من السوليدير، ضحكت كثيراً حين سماع صوتي، وقالت لي بمعنويات عالية، لا تخافوا علينا، عشنا وضعا أحلك من هذا إبان الحرب الأهلية ونتوقع الكثير، بيد ان صوتك اليوم أفرحني وأسعدني كثيراً، وكان لي مفاجأة لم أتوقعها. سألتها عن أولادها وزوجها، قالت كل في مكان، وبسبب انقطاع الطرق يتعذر التواصل، باركي لأختي نادية فقد تزوجت أخيراً. وختمت قائلة: إن المسيحيين والمسلمين من اللبنانيين قد وعوا الدرس جيداً من الحرب الأهلية وإنهم متضامنون حتى لو كانت قلوبهم تحمل ما تحمل من اختلافات. صديقتي بصراحة مسلمة وشيعية من الجنوب، وزوجها مسيحي، تقول: إن الكنائس والمساجد في منطقتهم قد فتحت أبوابها للاجئين، وإنها ليست وحيدة في شقتها، إنما معها أناس نازحون لجأوا للأمان فاستقبلتهم في شقتها، صديقتي الأخرى «دونا» من جونية تقول: كل من حولها في أمان وعلى يقين تام بأن «إسرائيل» هي عدو الشعب اللبناني، ولا خوف على وحدتنا الوطنية. مرشدي لرسالة الماجستير الذي يعرفه غالبية الطلاب والطالبات البحرينيين المنتسبين للدراسة في جامعة القديس يوسف، أفرام البعلبكي، تحدث لي بثقة وصلابة: «الكرامة هي أعز شيء عندنا، فبلدنا ليست دياراً سائبة لمن يرغب في انتزاعها، ما تقوم به المقاومة يحفظ كرامتنا، ومهما اختلف اللبنانيون فإنهم متضامنون حول الوقوف في وجه العدو وصده. لا تهم خسارة الجسور والمباني، (كله يتعمر يا منى، كله بيتعمر) المهم كرامتنا، وأسفنا فقط على أرواح الشهداء. تحملنا من قبل وقادرون على تحمل الصعاب الآن».

هكذا نقرأ الواقع، ليس موسماً سياحياً خسر عائداته لبنان، وليس سهرات وأفراحا ومرحا سنفتقده هذا الصيف كسياح دائمين للبنان، لا، ليس كتاباً مسلياً ولا ترفاً ثقافياً نتحاور بشأنه في ديوانية أو صالون مخملي. في هذا الوقت نقرأ الواقع كشهادات ومعاناة لأناس نعرفهم أو لا نعرفهم، فهم يحملون بين جنباتهم بعضاً من الحقيقة التي قد يدركها البعض أو يرفض استيعابها الآخر. فكلما استمعت إليهم عبر الهاتف، تيقنت، أن في لبنان شيئاً حضارياً ما، وعياً وطنياً عروبياً شريفاً ونقياً متقدما لم يدركه خريجو آبار النفط بعد، قد أراه ويراه غيري إلى حد ما، ولكن من يعانون الغبش في عيونهم، لا يرون في المقاومة إلا ضربا من ضروب المغامرة، والمخاطرة بأرواح الشعوب العربية التي يتباكون عليها ويسرقون من جهة أخرى ثرواتها! نكرر عليهم ما قاله سماحة السيد، حفظه الله: «فقط اصمتوا واتركوا شئون المقاومة لنا: ففي صمتكم حكمة وموقف سيقدره التاريخ. إن في المقاومة عظمة وشجاعة وإباء»

إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"

العدد 1418 - الإثنين 24 يوليو 2006م الموافق 27 جمادى الآخرة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً