العدد 1577 - السبت 30 ديسمبر 2006م الموافق 09 ذي الحجة 1427هـ

أخلاقيات المياه... البعد الآخر في إدارة الموارد المائية (1/3)

وليد خليل زباري Waleed.Zubari [at] alwasatnews.com

وليد خليل زباري

برز في السنوات الماضية موضوع «أخلاقيات المياه» كحقل فلسفي مستقل في الأروقة الأكاديمية والمناقشات المتخصصة في المياه والحوارات المتعلقة بحاكمية المياه واستخداماتها. وجاء ذلك بسبب القلق بشأن حصول الإنسان على احتياجاته الرئيسية من المياه للحياة وكسب العيش، وخدمات المياه الأخرى مثل الصرف الصحي، وتوجه الكثير من الدول لخصخصة خدمات المياه، والتي وصلت في بعض الأحيان إلى حد وضعها في «المزاد» العام للشركات الخاصة الأجنبية، ومن دون قيود أو ضوابط تحمي المستهلكين، تحت حجّة جلب الاستثمارات الخارجية والتخلص من الأعباء المالية، وكذلك بسبب التنافس المتزايد على المياه بين القطاعات البلدية والزراعية والصناعية والأخرى المعتمدة عليها، ما قد يحرم بعض فئات المجتمع، وخصوصاً الضعيفة اقتصادياً وسياسياً، من الحصول على متطلباتها المائية ولكسب قوتها.

ويرى الباحثون في هذا المجال أن قضايا مثل توزيع حصص المياه بين مختلف فئات المستهلكين، وفرض تعرفة على المياه، وخصخصة خدمات المياه، والإدارة الكفؤة للمياه، وحقوق الأجيال القادمة في المياه تحتاج لمناقشتها ضمن إطار أخلاقي مبني على الإنصاف والعدالة الاجتماعية. ويرى هؤلاء بأن إضفاء «البعد الأخلاقي» في إدارة الموارد المائية والمحافظة عليها، وكذلك على وظائفها الحيوية المتعددة للبيئة، من خلال مبادئ أخلاقية تحكم هذه الإدارة، يعتبر من الأمور المهمة في مجال حاكمية المياه واستدامتها، وبأن المحافظة على الموارد المائية وحمايتها وعدم العبث بها هو جانب أخلاقي أولاً قبل أن يكون جانباً إدارياً.

ويرجع تاريخ بروز هذا الحقل، أي أخلاقيات المياه، عندما قامت منظمة اليونسكو بإنشاء اللجنة العالمية بشأن أخلاقيات المعرفة العلمية والتقنية (COMEST) في العام 1997، والتي قامت بدورها بإنشاء أربع لجان متخصصة، كان من ضمنها لجنة خاصة عن «أخلاقيات المياه العذبة». وبالتعاون مع «البرنامج الهيدرولوجي الدولي» التابع لليونسكو والمعني بعلوم وإدارة الموارد المائية الطبيعية، ركزت هذه اللجنة أعمالها على موضوع أخلاقيات استخدام المياه العذبة، وصدر عنها وثيقة تناقش الموضوع بعنوان «أخلاقيات استخدام المياه العذبة»، كما نتج عن ذلك إنشاء شبكة عالمية بحثية (RENEW) في مجال أخلاقيات المياه مهمتها الأساسية زيادة الاهتمام بالقضايا الأخلاقية المتعلقة بالاستخدام المستدام للموارد المائية والمشاركة المنصفة لها بين قطاعات المجتمع.

وبناء عليه تم إنشاء ثلاثة مراكز بحثية في العالم كجزء من هذه الشبكة، الأول في أستراليا في العام 2000 ليغطى منطقة جنوب شرق آسيا والباسيفيك، والثاني في النرويج في العام 2001 ليغطى منطقة الدول الإسكندنافية وبحر البلطيق، ومؤخراً في العام 2003 تم إنشاء «مركز أخلاقيات المياه» في مصر ليغطى الدول العربية.

ويتم طرح موضوع أخلاقيات المياه على مستويين، المستوى الأول عام، ويتعلق بأخلاقيات حاكمية المياه (Water Governance) أي الجانب الأخلاقي في أسلوب تخطيط وإدارة المياه، والثاني على مستوى الأفراد والشركات الخاصة العاملة في مجال خدمات المياه، سواء العاملين في القطاع الخاص أو العام أو الأكاديميين، ويُعنى بأسلوب تصرفهم عند تعاملهم مع المياه، أو ما يسمى بأخلاقيات المهنة (Code of Ethics).

وعلى المستوى العام، أي أسلوب إدارة المياه، ترتكز أخلاقيات المياه على العديد من المبادئ والأسس الأخلاقية في إدارة الموارد المائية وخدماتها، وتشمل حقوق الإنسان وكرامته (انظر «مياه الشرب من احتياج أساسي إلى حق من حقوق الإنسان»، «الوسط»، العدد 1381، 18 يونيو/حزيران 2006)، والمساواة والعدالة الاجتماعية، والتضامن المجتمعي، والحماية، والشفافية والمشاركة، واعتبار المياه سلعة عامة يمتلكها المجتمع/الدولة وليس الأفراد.

والعديد من هذه المبادئ المطروحة وكيفية تطبيقها مازالت مواضيع بحث نشط، ويتم مناقشتها والجدل حولها، وخصوصاً في المناطق الجافة محدودة الموارد المائية مثل المنطقة العربية. فمثلاً تدعو مبادئ المساواة والعدالة الاجتماعية إلى أن يحصل كل فرد في المجتمع على احتياجاته الرئيسية من خدمات مياه الشرب الآمنة والصرف الصحي الملائم، ويصبح هذا المبدأ مهماً عند توزيع حصص المياه وأولوياتها بين القطاعات المتنافسة عليها. ومن أهم هذه التي لها تبعات أخلاقية في المناطق الجافة هو توزيع المياه بين القطاع البلدي والزراعي والصناعي. فمن حيث المبدأ يجب أن تخصص المياه أولاً لقطاع مياه الشرب والاستخدام الآدمي لتحقيق مبدأ حق الإنسان في المياه للحفاظ على الحياة كاحتياج أساسي. إلاّ أنه من جانب آخر، يمثل الحصول على الغذاء، والذي مصدره الزراعة المعتمدة على الري في المناطق الجافة، أيضاً احتياجاً أساسياً للإنسان. ومن الناحية الاقتصادية إذا تم النظر إلى القيمة المضافة الني يمكن أن يساهم بها توظيف المتر المكعب من الماء في قطاع الصناعة سنجدها تفوق بكثير ما تضيفه في قطاع الصناعة. كما أنه بافتراض أنه يمكن تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية بين هذه القطاعات، فإن ذلك قد يؤدي إلى حرمان الأنظمة البيئية الحيوية المعتمدة على المياه من حصتها للبقاء، وتزداد هذه المعضلة عند النظر إلى موضوع المساواة بين الأجيال.

أما بالنسبة للتعامل مع المياه على أنها سلعة عامة، فإن تبعات هذا المبدأ تدعو إلى اعتبار المياه الطبيعية، مثل المياه الجوفية في المناطق الجافة، كأي سلعة عامة أخرى، بأنها قابلة للاستغلال من قبل الجميع ومملوكة من قبل الجميع. إلا أنه يجب تنظيم استغلالها لضمان استدامتها بحيث يكون لكل فرد من أفراد المجتمع الحق في استخدامها لتلبية متطلباتهم الأساسية للحياة. ويعتمد الداعون لتطبيق هذا المبدأ، أي اعتبار المياه الطبيعية كسلعة عامة، على ثلاث خواص أساسية تميز السلع العامة. الخاصية الأولى هي أنه ليس بإمكان فرد واحد حرمان الآخرين من استخدامها، والثانية استحالة تقييد الآخرين عن استخدامها، والثالثة أن الأفراد لا يستطيعون الاستغناء عن استهلاكها حتى إذا هم أرادوا ذلك.

إلا أنه وكما هو معروف، فإن ظاهرة تراجيديا السلع العامة (Tragedy of the Commons) يمكن أن تحدث للموارد الطبيعية عندما يغيب التنظيم الكفء لهذه الموارد، وعندما يتجاهل المستخدمون تأثيرات استخدامهم لهذه الموارد على تيسرها واستدامتها الحالية والمستقبلية للمستخدمين الآخرين مؤدياً إلى استخدامها بشكل جائر وخسارتها من قبل الجميع (أنظر «تراجيديا المياه الطبيعية في البحرين»، الوسط، العدد 1269، 26 فبراير 2006).

إلا أن الإشكالية، أو لنقل التناقض في اعتبار المياه كسلعة عامة تبرز عند النظر للمبدأ الرابع من مبادئ الإدارة المتكاملة، والذي تم تبنيه من قبل العديد من المؤتمرات بما فيها أجندة القرن الحادي والعشرين، والذي يدعو إلى اعتبار المياه سلعة اقتصادية، ويترتب على ذلك، بحسب النظرية الاقتصادية، أنه لحل مشكلة تدهور المياه والمحافظة عليها، أي منع ظاهرة تراجيديا السلع العامة، ينبغي أن يتم تحديد حقوق الأفراد في المياه الطبيعية وإنشاء «أسواق المياه» لتباع وتشترى فيها المياه، وكذلك حقوقها كأي سلعة اقتصادية أخرى. ويعتمد هذا المبدأ الاقتصادي على كون الناس مستهلكين عقلانيين، وإذا ما تمّ تغطية كامل تكاليف الخدمة بواسطة الدولة من دون وضع آلية لأسعار المياه، لن يكون هناك أي حافز للمستهلك ليحافظ على المياه واستخدامها بعقلانية.

إلا أن هذا المبدأ يعتبر مرفوضاً في العديد من المجتمعات والمحافل الدولية، وخصوصاً المجتمعات الإسلامية (سيتم التطرق في المقال الأخير من هذه السلسلة الثلاثية إلى أخلاقيات المياه في الإسلام ومناقشة هذه الموضوع من المنظور الإسلامي). ويرى بعض الباحثين بأن المناداة بهذا المبدأ، أي اعتبار المياه سلعة اقتصادية، قد أحدث العديد من الإرباك في التعامل مع المياه، فهي سلعة اجتماعية قبل أن تكون سلعة اقتصادية، وبأن المياه ليست كأي سلعة اقتصادية أخرى لأنها أساسية لحياة الإنسان ولا يستطيع البقاء بدونها، كما أن خدمات تزويد المياه والصرف الصحي هي حق لكل فرد بغض النظر ما إذا كان يستطيع دفع تكاليفها أم لا. ولذا فإن الحل الوحيد والقابل للتطبيق للمحافظة على المياه الطبيعية من التدهور وحمايتها هو انتزاع ملكية المياه من الأفراد واستملاك المجتمع لها، أي الدولة، ومن ثم الاعتراف الكامل لمبدأ المساواة وحقوق الإنسان في المياه بواسطة متخذي القرار ومدراء المياه والمستخدمين، وتنظيم استخدامها بناء على ذلك وبما فيه مصلحة المجتمع واستدامة الموارد المائية.

يستكمل المقال القادم استعراض ومناقشة موضوع أخلاقيات المياه على مستوى الأفراد والشركات الخاصة العاملة في مجال خدمات المياه?

إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"

العدد 1577 - السبت 30 ديسمبر 2006م الموافق 09 ذي الحجة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً