العدد 1652 - الخميس 15 مارس 2007م الموافق 25 صفر 1428هـ

كل أزمة ... وأنتم بخير

السيد محمد حسين فضل الله comments [at] alwasatnews.com

لاتزال الإدارة الأميركية تعمل على إدخال الواقع العربي والإسلامي في مقايضة سياسية وأمنية مجحفة لحساب مصالحها ومصالح «إسرائيل» في المنطقة... فهي تسعى لمقايضة وقف إهراق الدم الفلسطيني بالمزيد من التنازلات التي تريد للفلسطينيين أن يقدموها لحساب «اسرائيل» بما يتهدد القضية الفلسطينية بالكامل، كما تريد للبنانيين أن يدخلوا معها في مقايضة سياسية وأمنية لحساب بعض الملفات في المنطقة... وهي في الوقت عينه تريد للعرب والمسلمين أن يقبلوا بالمقايضة الكبرى التي لا توقف فيها أميركا الفتنة السنية الشيعية التي تعمل لتحريكها في المنطقة إلا على أساس التنازلات الكبرى من رصيدهم السياسي والأمني ومن رصيد قضاياهم الكبرى الاستراتيجية.

ففي المشهد الفلسطيني لاتزال حكومة الوحدة الوطنية تواجه التعقيدات والصعوبات ولاتزال الإدارة الأميركية تمارس الضغوط بعدم الاعتراف بها ما لم تخضع لشروط الرباعية الدولية في الاعتراف بـ «اسرائيل» ووقف المقاومة ما ترفضه حماس من ناحية مبدئية واستراتيجية.

وفي موازاة ذلك يتحرك بعض المسئولين العرب لتعديل المبادرة العربية في مؤتمر القمة الذي انعقد في بيروت وذلك فيما يتصل بمكانة اللاجئين الفلسطينيين في التسوية الدائمة بأن يُمكّن اللاجئون من العودة إلى مناطق السلطة فقط أو البقاء في أماكن سكناهم وتلقّي تعويضات مالية تدفع جزءا كبيرا منها دولة عربية نفطية، وهناك حديث عن اتصالات سرية من هذه الدولة مع الإدارة الأميركية بهدف الوصول إلى صيغة متفق عليها وربما تعرض الخطة المعدلة في القمة العربية القادمة في الرياض في نهاية الشهر، وتتحرك الاتصالات مع الدول العربية الأخرى للموافقة عليها والضغط على الدولة الرافضة وهي سورية للحصول على موافقتها.

وهناك موضوع آخر في العلاقات الأميركية - الإسرائيلية في الطلب الصهيوني زيادة المساعدات الأمنية الأميركية إلى 3 مليارات دولار بحجة التهديدات الأمنية المحدقة بـ «اسرائيل» من جانب إيران وحزب الله وحماس لتقوية الدولة العبرية أمنيا وعسكريا لتهديد هذه الجهات في خطتها المتحركة في حرب جديدة أو عدوان جديد. ونحن نعرف الموقف الأميركي من «اسرائيل» المتمثل في جعلها تحتل الموقع الذي يمكنها من تهديد المنطقة كلها ومساعدة المشروعات الأميركية في السيطرة عليها من خلال التحالف الاستراتيجي. والقيام في الوقت نفسه بالضغط على الدول العربية لإضعافها عسكريا واقتصاديا وأمنيا وسياسيا لتبقى في دائرة الخضوع للسياسة الأميركية في إثارة الفتن الطائفية والمذهبية والعرقية وتوجيه ثرواتها إلى شراء الأسلحة التي تنتجها المصانع الأميركية لتقوية اقتصادها الاحتكاري ليتحرك السلاح ضد المواقع الإقليمية في المنطقة العربية والإسلامية مع الشرط الحاسم الذي تخضع له عقود شراء السلاح وهو أن لا يوجه ضد «اسرائيل» في أي حرب عربية - إسرائيلية، لأن الخطة الأميركية هي توجيه السلاح إلى صدور العرب والمسلمين في خلافاتهم الداخلية التي تتحرك فيها الفتن التي يستحل فيها المسلمون دماء بعضهم بعضا في خدمة مجانية للاحتلال وحلفائه.

وفي المشهد العراقي، تمتد المأساة في تفجير شارع المتنبي، وهو شارع المكتبات لتختلط دماء المدنيين الأبرياء بأوراق الكتب لتشهد على هؤلاء الذين لا يحترمون الإنسان سواء أكان مسلما أو غير مسلم شيعيا أو سنيا طفلا أو امرأة أو شيخا ولا يحترمون الثقافة التي تنير العقل وتحرّك الوعي وتقود الإنسان إلى الانفتاح على الإسلام الحضاري الأصيل وإلى الابتعاد عن العنف الوحشي ضد الإنسانية كلها في عناوين تطرح الإسلام الذي هو براءٌ منها وتدين المسلمين الذين يختلفون معهم في التفكير بالارتداد على الإسلام وبالكفر به. الأمر الذي أعطى الإسلام صورة مظلمة مشوّهة لدى الآخرين الذين استغلوا أعمال هؤلاء في اتهامه بالإرهاب.

ومن جانب آخر، يواصل هؤلاء التكفيريون تفجيراتهم الوحشية التي لاحقت المؤمنين الصالحين الموالين لأهل البيت الزائرين للإمام الحسين(ع) في مناسبة الأربعين ليقتلوهم بشكل وحشي من دون رحمة، وربما كانوا يستهدفون في ذلك الخطة الأمنية التي لا يملكون التعامل معها بطريقة مباشرة ولكنهم يقتلون المدنيين العراقيين الأبرياء فيشاركون المحتل في هجومه على المدنيين بين وقت وآخر، ومن المضحك المبكي أنهم يطرحون على تصرفاتهم الوحشية عنوان المقاومة للاحتلال الذي يساهمون في امتداده وبقائه طويلا في العراق لتحقيق أهدافه الاستكبارية ضد المنطقة كلها.

وإذا كان الحديث عن نتائج مشروع مؤتمر دولي عربي، فإننا نخشى أن تكون خلفيته الأميركية للضغط على المؤتمرين في إنقاذ الاحتلال من المأزق السياسي والأمني الذي يتخبط فيه، ملوّحا لبعض الدول التي تتعقد علاقاتها بأميركا بأن دعوتها إلى المؤتمر قد تساهم في إزالة الحاجز السياسي بينها وبين أميركا في عملية التفاوض داخل المؤتمر.

إن الاحتلال يبحث عن مخرج لأزمته من هذا الفشل الذريع في احتلاله من خلال بعض حالات الانفتاح على بعض دول الجوار التي كانت مغلقة من قبله في سياسته على صعيد العلاقات السياسية الواقعية، ونحن لا نرى خيرا في ذلك كله ولا نشارك بعض الجهات العراقية والعربية التفاؤل الذي يثيرونه في هذا الاتجاه.

ومن جانب آخر، فإن الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن إضافة إلى ألمانيا تعود للبحث عن تشديد العقوبات على إيران لأنها لم تمتثل لقرار ما يسمى المجتمع الدولي في إيقاف تخصيب اليورانيوم في نطاق مشروعها النووي السلمي الذي أكدت وكالة الطاقة الذرية أنه ليس مشروعا عسكريا وأنها قادرة على إثبات الجانب السلمي للمشروع، ولكن هذه الدول الخاضعة للضغط الأميركي والمتحركة في دائرة الهيمنة على دول المنطقة لمنعها من الأخذ بالخبرة العلمية ومنها النووية لخدمة التطور الاقتصادي في قضايا الطاقة، لاتزال تلعب لعبة القط والفأر الخبيثة على إيران لخدمة مصالحها الاقتصادية التي ستتأثر بالعقوبات مهما كانت غير فاعلة.

إن المشكلة في الغرب تكمن في أنه لا يريد الاستماع إلى الحجة القاطعة التي تقدمها إيران في رفض التخطيط لصنع القنبلة النووية، بل يبقي المسألة في دائرة الاتهام غير الواقعي، تماما كما هي الولايات الأميركية التي خاضت الحرب ضد العراق على أساس اتهامه بامتلاك أسلحة الدمار الشامل ثم تبين كذبها بعد الاحتلال.

أما في لبنان فقد التقينا قبل أيام بالذكرى السنوية لمجزرة بئر العبد التي مثلت مشهدا من مشاهد الإرهاب الأميركي الذي قتل وجرح المئات من المدنيين الأبرياء وسفك دماء الأطفال والأجنة والنساء والشيوخ والعمال والكسبة في إطار سعيه لقتل من قال رئيس الاستخبارات الأميركية آنذاك إنه «أصبح مزعجا للسياسة الأميركية وأن عليه أن يرحل».

إننا عندما نستذكر هذه المجزرة المروعة التي كانت من صنع أميركي على مستوى التخطيط والمتابعة، نريد لشعوبنا أن تعرف ما هو الإرهاب الأميركي الذي يتوالى فصولا في العراق وأفغانستان وفلسطين والذي عرفه اللبنانيون في الحرب الإسرائيلية الأخيرة، ونريد لكل المعنيين على المستوى السياسي والقضائي والقانوني أن يتحملوا مسئوليتهم حيال ملاحقة الإدارات الأميركية عن هذه المجزرة وغيرها وخصوصا أن أدلتها الدامغة والشهادات حولها مثبتة وموثقة في الصحف الأميركية وفيما كتبه كتّاب أميركيون بارزون منهم صاحب كتاب «الحجاب» بوب ودوود.

وفي هذه الأيام يعيش اللبنانيون في أجواء غير واقعية من التفاؤل بالحل من خلال بعض اللقاءات الإقليمية على صعيد القمة حتى خيّل للبعض أن الحلّ على الأبواب ليلتقوا ببعض التصريحات من مسئولين بأن الأزمة في لبنان لاتزال تراوح مكانها ولتنطلق بعض الكلمات والمواقف من الذين كانوا ولا يزالون يعطلون أية مبادرة ويرفضون أيّ حلّ سواء أكانوا من الفريق الرسمي أو الجهة السياسية المعقدة... وذلك لأن القضية لاتزال خاضعة للتعقيد الدولي الأميركي - الفرنسي الذي يوسوس لبعض القائمين على الواقع السياسي، من خلال إيحاءات وتعليمات جورج بوش وكوندوليزا رايس وديك تشيني ووزارة الدفاع الأميركية وأجهزة المخابرات متعددة الاختصاصات، وقد جعلوا الأزمة اللبنانية موضوعهم الأثير فيستقبلون بين وقت وآخر وزراء ونوابا ووجهاء ويتحركون من خلالهم لاغتيال أيّ مشروع حلّ فور ظهور عنوانه، لأن المشكلة الآن أن قادة الدول، ولاسيما الرئيس بوش، تحولوا إلى أطراف محليين وصارت الأزمة اللبنانية موضوعا دوليا، فهل يمكن - أمام هذا الواقع - لأيّ حل عربي أو إقليمي أن يشهد النور إذا لم يحمل أختام الرئاسة الأميركية وبعض الرئاسات الأوروبية.

إن الحل اللبناني للأزمة باختصار هو جزء من صفقة دولية - إقليمية عربية كبرى، ولا دور للحل المحلّي... إننا لا نتشاءم، ولكننا ندرس الأمور من خلال الواقع لا من خلال التمنيات... وكل أزمة وأنتم بخير.

إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"

العدد 1652 - الخميس 15 مارس 2007م الموافق 25 صفر 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً