العدد 1671 - الثلثاء 03 أبريل 2007م الموافق 15 ربيع الاول 1428هـ

مرحبا يا خير داع

رملة عبد الحميد comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

لايزال لذلك النشيد دوي عالٍ، يخرج صداه من القلب إلى كل بقاع العالم، مرحبا بإطلالة خير البرية، كانت الجزيرة العربية بل الإنسانية جمعاء على موعد مع فجر جديد، يبزغ معه إشعاع التغيير من الحياة التي تستهوي أهواءنا وتشدها إلى مقالع الطين والأنانية والذات إلى حياة السمو التي يردها الله لنا، كان ذلك مع مطلع الربيع حين أشرقت شمس مكة بمولود النور، إنه محمد بن عبدالله يتيم آمنة العظيم.

نما الفتي في ربوع مكة، ونمت معه علامات التميز، فكان الصادق الأمين، ذا الخلق الرفيع، اتخذ من الغار مكانا للانقطاع عن كل ما يلوث النفس من دنو السلوك والتفكير، كثر الإعجاب والتعجب حوله، حتى إذن الله لأمره بالظهور، ليبدأ النبي بأول تباشير هذا الدين الجديد (اقرأ)، آمن به وصدقه خاصته خديجة وعلي(ع) وجماعة من أصحابه، بعدها بدأ بالعشيرة فبرز له أبولهب صارخا: تبا لك، فكان جزاء الأخير توبيخا إلهيا له وإنذارا لغيره «تبت يدا أبي لهب» (المسد:1)، نادى محمد بالرسالة امتثالا «فأصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين» (الحجر:94)، ومعها بدأ يدعو وقريش تراوغ، وتهدد، وتضرب بيد من حديد.

كانت الجزيرة في أسوء أحوالها الإنسانية، طبقية ظالمة، وحقوق إنسانية مهدورة، وثروات مكدسة بيد تعربد، لقد كانت قبيلة قريش مثالا صارخا يؤصل سيطرة القبلية على النظام السياسي، فهيكلية الحكومة القرشية قائمة على أساس الولاء والعشيرة والمحاصصة، اذ كانت تتألف من عشرة «بطون» تتوزع عليها مهمات وزارية محددة فبني هاشم كانت لها خدمة سقاية الحجاج، وبني أمية تتولى قيادة الجيش، وهي الممسكة براية قريش المعروفة بمسمى العقاب، وبني نوفل كانت مسئوليتها منحصرة في الجانب المالي الذي تنفقه قريش في موسم الحج والمعروف بالرفادة، وبني عبدالدار أنيط بها الإشراف على مجلس شورى قريش (دار الندوة)، وبني أسد ممسكة بأمور القضاء، وبني تميم تحصر الديون والمغارم (الاشناق)، ولبني مخزوم أسندت مسئولية القبَّة والأعِنَّة أي القيام على أموال للحرب والقتال وقيادة الخيل والفرسان، وبني عدي كانت تمثل قريش في الخارج وعرفت هذه المهمة آنذاك بالسفارة، أما بني جمح فهم من يدير الايسار والأزلام، ولبني سهم أنيط مسئولية إدارة الأموال الموقوفة على الآلهة، ولم يكن لمن لا قبيلة له أي وجود سياسي أو اجتماعي في المنظومة القبلية، فلذلك جاءت الدعوة الإسلامية مبنية على رفض المنطق القبلي: «ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض، ونجعلهم أئمة، ونجعلهم الوارثين»، لكن القرشيين رفضوا هذا المبدأ الذي يلغي القبلية، وأرادوا للدين الجديد أن يولد من رحم السيادة القبيلة: «وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم» (الزخرف:31)، - يقصد بهما عظيم مكة الوليد بن المغيرة وعظيم الطائف عروة بن مسعود الثقفي - هكذا سارت قريش وهكذا أرادت لنفسها أن تكون دولة أسياد وعبيد.

لجأت قريش في بادئ أمرها إلى الاستهزاء بالرسول ودعوته: «لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا، أو تكون لك جنة من نخيل وأعناب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا، أو تأتي بالله والملائكة قبيلا، أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء»(الإسراء:90)، لكن التسديد الإلهي أحبط مساعيهم: «إنا كفيناك المستهزئين»(الحجر:95). لم تكن قريش تدرك أن الدعوة المحمدية سننتشر بهذه الصور ة الكبيرة، وتلاقي القبول المنقطع النظير لدى قطاع واسع من المكيين، فاتجهت نحو التضليل الإعلامي، وترويج الإشاعات الكاذبة حول شخصية النبي محمد (ص)، باتهامه بالسحر والجنون، ولما رأت أن ذلك لم يجدِ نفعا، إذ كثر الناس التفافا حوله، خافت من ضياع ملكها وسيادتها، فلجأت إلى أسلوب الإغراء والمساومة، فأرسلوا عتبة بن ربيعة ليقول للنبي (ص): «يا ابن أخي، إن كنت تريد بما جئت به مالا، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد بما جئت به شرفا، سوّدناك علينا، حتى لا ينقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد ملكا ملّكناك علينا». فما كان قوله: «ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل عليَّ كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بيني وبينكم».

يئست قريش من تلك الشخصية الجبارة التي لم يهزها المال والمنصب فلجأت إلى إيذائه، فرجموا بيته بالحجارة، ووضعوا الشوك في طريقه، وألقوا التراب على رأسه، وسلطوا صبيانهم ومجانينهم عليه، يلاحقونه، كما عمدوا إلى تعذيب أصحابه عله يرجع، فما زاده ذلك إلا صلابة، عندئذ لجأت قريش إلى الضغط والحصار، فتحداها رسول الأمة، «يا عمّ، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك فيه» نعم اختار الحصار حيث الألم والغربة في الوطن.

كان العناد والجبروت والكبرياء والقرشي مدعاة لتفكير النبي (ص) بالهجرة إذ إنه رجل سلام، محبا لوطنه، لم يكبت مشاعر الحزن عندما همّ بالرحيل إذ وقف على سوق الحزوزة على أطراف مكة قائلا «والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إليَّ، ولولا أهلك أخرجوني منك ما خرجت منك». في المدينة المنورة تحول النبي محمد (ص) من رجل دعوة إلى رجل دولة، فالإسلام دين ودولة، ولا ينحصر في زوايا مسجد أو محراب صلاة، وهذا ما أدركته قريش وحلفاؤها فلم يتركوه في حاله إذ تحدوا على اختلاف مشاربهم وشنوا عليه بدرها وأحدها وأحزابها حتى أتاه النصر المبين فلم يعد وجود لقريش إلا في كتب التاريخ تحت عنوان «الرهط المفسدون في الأرض».

إقرأ أيضا لـ "رملة عبد الحميد"

العدد 1671 - الثلثاء 03 أبريل 2007م الموافق 15 ربيع الاول 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً